القادة والحرب والعدالة المفقودة

عباءة نابليون بونابرت للترويج لمعرض للاحتفال بعيد ميلاد الأمير تشارلز السبعين والافتتاح الصيفي لقصر باكنغهام (صورة إرشيفية)

كلّ ما فعله البشر منذ بداية استقرار المجتمعات بعد اختراع الزّراعة بأكثر من ألف عام أنّهم سعوا لعدم العدالة.

فلم يعد هناك أبنية متشابهة تدل على مساواة بين النّاس. اتّخذت المساكن شكل مالكها -بحسب تقييم علماء الآثار- وصارت دليلًا على ظهور فئة من النّاس امتلكت زمام الأمور وجنحت إلى قيادة المجتمع والهيمنة عليه. ومن ثم أصبحت هناك فئة تملك السّلطة والحكم؛ مما يعني عدم وجود مساواة. سعى البشر فيما بعد للحصول على تلك العدالة والمطالبة بالمساواة، وقامت لأجل ذلك ثورات وأُلِّفت كتب وسعى مخترعون سياسيون لإيجاد أنظمة وسنّ قوانين للعمل بها لتحقيق العدالة. تلك العدالة التي كانت موجودة بشكل طبيعي وافتقدها الإنسان فأصبحت كالفردوس المفقود موضوعًا للأمل والحنين تارة، وهدفًا لانتفاضات ثورية تارة أخرى.

الشّخصية القيادية

وقد اعتاد البشر منذ ذلك الوقت أن يهدموا القيم ثمّ يعودوا للمطالبة بوجودها، أن يزعزعوا الأمن ويقتلوا بعضهم ليطالبوا بالحريّات، وأن ينصِّبوا رجلًا واحدًا فردًا ليقوم بحكمهم. رغبة البشر في جعل حاكم واحد يقودهم ويتحكم في مصائرهم ترتبط في أعماق الوعي الجمعي بالتوحيد.

منذ أن وعى الإنسان القديم فكرة الخالق الأوحد الذي بيده كلّ شيء سلّم أمره وقياده إليه وربط كلّ ما يحدث له في الحياة بتلك الإرادة الإلهية، وهذا ما طوّعه لقبول فكرة الحاكم الأوحد الذي بيده كلّ شيء، حتّى الحياة والموت! ولم يعترض البشر عبر تاريخهم على فكرة الغزو التي هي من إرادة الحاكم، رغم ما تجره من ويلات ودمار وخسائر حتى على الطرف المنتصر، مع هذا يجد البشر في الحروب خلاصًا بالمعنى الديني.

تحقيق السيادة بالحرب

أقدم حرب شاركت فيها أعداد كبيرة من البشر تعود إلى ما قبل عهد الفراعنة حسب الحفريات في وادي النيل. وقد أفرزت التجمعات البشرية الكبيرة أو الحضارات الكبيرة “الفرعونية والسومرية والأكادية” حروبًا منتظمة وكبيرة. ولا تكاد تخلو حضارة أو تجمّع كبير للبشر من حروب طاحنة لبسط الهيمنة والسيادة، بينما تخلو المجتمعات الصغيرة التي لا تزال تعيش على جني الثمار وحركة الصيد أو الرعي من تلك الحروب.

وقد ارتبطت الحروب بوجود الحضارات التي ظهرت بالضرورة نتيجة المدنيّة والتطور. المكان الوحيد الذي اكتشف علماء الآثار أنه لم تحدث فيه حرب هو “حضارة الهارابان” الواقعة في وادي الهندوس بين أفغانستان وباكستان والهند.

كيف خلت من الحرب؟

لم تدخل شعوب الهارابان الحرب لأنّها ببساطة لم تترك أثرًا لتمثال حاكم مما يدل على عدم وجود سلطة متمثلة برجل واحد. مع أنّ الفترة التي ظهرت فيها تلك الحضارة هي نفسها الفترة التي ازدهرت فيها الحضارة الفرعونية والسومرية، ويبدو واضحًا من الآثار أنّها كانت حضارة متطورة في كلّ المجالات، الرّي والزراعة والصرف الصحي والبناء وكلّ ما يتعلّق بالتّقدم الذي نافستها فيه الحضارات الأخرى. لكن لم يجد العلماء أثرًا يدل على دمار أو صناعة حربية أو حتّى وجود جيوش! ما عدا بعض الحصون الدّفاعية.

لقد كانوا على ما يبدو على علاقة طيبة بجيرانهم وكانوا يسكنون واديًا محصّنًا بشكلٍ طبيعي بسبب موقعه الجغرافي. مع هذا هناك شكّ من قبل العلماء الذين لم يجدوا شيفرة لفكّ طلاسم لغة سكّان الهارابان التي يمكنها إن استطاعوا قراءتها أن تنسف كلّ النظريات بعدم وجود حروب في المنطقة. بل ترسخ الاعتقاد السائد بابتلاع كلّ حضارة عظيمة لجيرانها الأقل شأنًا وقوة.

الحاكم الفرد وإثم الحرب

لا نستطيع تحميل فرد حاكم بمفرده إثم الحروب، فالشعوب تمتلك مقدرة هائلة على إشاعة الفوضى ورغبة دفينة في سفك الدماء بدأت بقابيل وهابيل ولم تنتهِ حتّى يومنا هذا. لكن الرغبة والمقدرة مرهونتان بالتأكيد بمركز السلطة الدينية والدنيوية. ولا يحتاج الأمر إلا لحاكم مغرور أو متطرف أو مجنون “جنون العظمة” والأمثلة عبر التاريخ كثيرة. فقد تصوّر نابليون أنّ احتلاله لروسيا سيمكِّنه من السيطرة على أوربا، وكان ذلك خطأً قاتلًا. فقد كان واثقًا من نصره نتيجة تفوق جيشه، وكانت فرصته سانحة للانتقام من القيصر ألكسندر الذي كان سببًا في فشل حصار نابليون لبريطانيا. لكنّ روسيا كانت المصيدة التي وقع فيها نابليون بسبب ثقته وغروره. وجاء بعده هتلر بخطّة مشابهة ولم يتعلّم من أخطاء نابليون، وكان احتلاله لروسيا قاصمة الظّهر في خسارته للحرب.

عربيًّا قاد صدام حسين بلاده إلى حرب مع إيران ظنّ أنّه قادر عليها، لكنّ العنجهية والغباء دفعاه إلى التغاضي أو تجاهل التوازنات الدولية، إذ لم تعد الحروب “بينية” بين دولتين فقط. ففي عصرٍ يهيمن عليه الرأسمال المتوحّش ستكون الكلمة العليا للكهنة الكبار، تجّار الحروب ومشعلي الفتن التي تدرّ عليهم الذّهب، فأن تُستدرج لحرب وتبدأها لا يعني أنّك قادر على وقفها ما لم يخرج القرار من سدنة الهيكل، وقد أمعن صدام في غبائه يوم قرر اجتياح الكويت.

لا بدَّ إذن من وجود قادة لحدوث حرب

القيادة الفردية في المجتمعات والحروب توأم لا يمكن فصلهما، ولا نستطيع تحديد أيّهما وجد قبل الآخر، الحرب أم القيادة الفردية! المؤكد في عصرنا الحالي أنّ القائد الذي يمكن أن يقود بلاده إلى حرب لا يلزم أن تتوافر فيه صفات القائد الحكيم الشجاع، بل يكفي أن يسود البلدَ رجلٌ أخرق مقبول أو مفروض من سدنة الهيكل المالي ويُنفِّذ ما يُطلب منه حتّى يتحقّق المراد، وأوضح الأمثلة على ذلك رؤساء دول الربيع العربي خاصّة في سوريا واليمن وليبيا الذين أخرجوا بلادهم من التاريخ بدلًا من القيام بقليل من الإصلاحات في الحياة العامة سياسيًّا واقتصاديًّا.

المصدر : الجزيرة مباشر