الاستراتيجية الأمريكية.. عقدان من التحولات (4)

بوش

بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، أعلن الرئيس الأمريكي المنتخب لولاية ثانية، جورج بوش، أنه سيسعى للعمل مع أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) “لتعزيز التنمية والتقدم، ولهزيمة الإرهابيين، ولتشجيع الحرية والديمقراطية كبديلين للاستبداد والإرهاب”، وقال “سأمد يدي إلى كل من يشاركنا أهدافنا، وأنا تواق لبدء العمل الذي نواجهه. إنني أتطلع إلى خدمة هذا البلد لأربع سنوات أخرى”، وأضاف “مهما كانت خلافاتنا في الماضي، لدينا عدو مشترك، ولدينا واجبات مشتركة لحماية شعوبنا، ولمجابهة المرض والجوع والفقر في مناطق العالم المضطربة”.

وأشار إلى أن هناك أكثر من تسعين دولة تتعاون مع الولايات المتحدة في تبادل المعلومات للمساعدة في الحرب ضد الإرهاب وتقديم الإرهابيين للعدالة. وأضاف “إن ذلك تحالف عريض القاعدة، وسوف نواصل تعزيزه”. ودافع الرئيس بوش عن هدف إدارته المتعلق بتعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط. وقال إن تلك السياسة “قد تثير امتعاض البعض وقد يعتبرها البعض حماقة”، ولكنه يشعر بقوة أنها سياسة حكيمة وأنه من الممكن الترويج لمجتمعات حرة في جميع أنحاء العالم.

في مرحلة مفصلية من تاريخها وتاريخ العالم، أصبحت الولايات المتحدة هي التي تُحدد معايير الخير والشر، وهي التي تقوم بتصنيف الدول والشعوب ضمن هذين المحورين.

وقد تم تأكيد توجهات الإدارة الجديدة في عدد من الوثائق الأساسية، الصادرة عن الجهات الرئيسة الفاعلة في صنع السياسة الخارجية الأمريكية، ومن بين هذه الوثائق:

1ـ بيان وزيرة الخارجية الأمريكية 2005:

في بيانها الأول أمام لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ (18 يناير/كانون الثاني 2005)، بعد اختيارها وزيرة للخارجية الأمريكية، حددت كونداليزا رايس ثلاث أولويات رئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية خلال ولاية بوش الثانية، هي: توحد المجتمعات الديمقراطية في إقامة نظام دولي يرتكز إلى القيم المشتركة وحكم القانون، وتعزيز قوة مجتمع الديمقراطيات ليحارب التهديدات التي تواجه الأمن المشترك ويحد من اليأس الذي يغذى الإرهاب، ونشر الحرية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم.

وأكدت رايس أولوية المبدأ الذي تعهد به الرئيس بوش في بداية ولايته الثانية بنشر الحرية والديمقراطية في أنحاء العالم‏،‏ وإنهاء حكم الطغيان في أي مكان على الأرض‏،‏ وقامت بتوسيع قائمة دول محور الشر التي أعلنها بوش عام ‏2001‏، لتضم كوبا‏ وزيمبابوي‏‏ وبورما‏ وبيلاروسيا‏،‏ بالإضافة إلى إيران وكوريا الشمالية‏،‏ كدول لا بد للولايات المتحدة أن تتدخل لتساعدها على ترسيخ الحرية بها.

2ـ خطاب حالة الاتحاد (2005):

في خطابه الأول عن حالة الاتحاد، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية 2004، والذي ألقاه في يناير 2005، ركز الرئيس الأمريكي جورج د. بوش على عدد من القضايا، التي اعتبرها تشكل محاور الاهتمام الرئيسة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال ولايته الثانية، وجاء في مقدمة هذه القضايا: الإرهاب، والقضية الفلسطينية، والوضع في العراق. وكذلك السياسة الخارجية تجاه بعض الدول، التي تنظر إليها الولايات المتحدة بنوع من الشك والحذر، وفى مقدمتها إيران وسوريا. وهو ما يعكس وجود اتجاه نحو مزيد من التشدد خصوصا نحو الدول العربية والإسلامية، في ظل استمرار هيمنة المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل على عدد من المؤسسات الفاعلة المعنية بصنع وإدارة السياسة الخارجية الأمريكية.

ومن قراءة خطاب تنصيب بوش‏، تبرز عدة توجهات، منها: تأكيد ابتعاد السياسة الخارجية عن مبدأ استقرار الأنظمة‏،‏ واتجاه هذه السياسة إلى الإصلاح والحرية‏،‏ والطريق إليها هو الخلاص من الطغيان، وتأكيد مبدأ تغيير مواصفات الأصدقاء‏،‏ فعلاقته بالحكومات ستتحدد بناء على تعامل هذه الحكومات مع شعوبها، وتبنّي مبدأ “السياسة الخارجية الهجومية”، التي تعطى نفسها مهمة التدخل في شؤون الآخرين‏،‏ وتأكيد عقيدتها بأن أمن الولايات المتحدة لا ينحصر توفيره داخل حدودها‏،‏ وإنما يتحقق بما يجري داخل حدود الآخرين، وربط تحقيق السلام في العالم‏،‏ وحل النزاعات المهددة للسلام بالديمقراطية، فأفضل أمل للسلام في العالم هو توسيع الحرية في كل مكان.‏

وهذه التوجهات تعكس الارتباط الوثيق بين البعدين الديني/القيمي، والمصلحي/الواقعي، في السياسة الأمريكية خلال فترة الولاية الثانية للرئيس بوش، ففي الوقت الذي رفع فيه شعارات الحرية والديمقراطية، وجعل منهما المرجعية التي يمكن من خلالها تحقيق السلام في العالم، فقد جعل منهما الأداة التي تتيح له التدخل في الشؤون الداخلية في الوقت الذي تحدده الولايات المتحدة، وبما يتفق ومصالحها.

إن اعتبار “الحرب ضد الإرهاب” محور الاستراتيجية الأمريكية، كان بمثابة عملية خلق “المحفز الاستراتيجي” اللازم والضروري، لبناء الاستراتيجية الأمريكية بعد سبتمبر 2001، وهو ما انعكس بقوة ووضوح في استراتيجيتي الأمن القومي 2002 و2006.

3ـ استراتيجية الأمن الوطني 2006:

جاء تحديث استراتيجية الأمن القومي لعام 2006، انطلاقا من التسليم بأن الولايات المتحدة في حالة حرب. وأكدت الاستراتيجية أن الولايات المتحدة لا تميز الآن، بين الإرهابيين والدول التي تؤويهم، وأن مجابهة التهديدات قبل أن تصبح حقيقة واقعة ما زالت سياسة الولايات المتحدة. وأن مبدأ الضربة الاستباقية، لا يزال قويا ويجب أن يظل جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية.

وفى مواجهة هذا التصور، يمكن القول إن اعتبار “الحرب ضد الإرهاب” محور الاستراتيجية الأمريكية، كان أقرب إلى عملية خلق المحفز الاستراتيجي اللازم والضروري، لبناء الاستراتيجية الأمريكية بعد سبتمبر، كما حدث في استراتيجية 2002، أو تحديثها، كما حدث في استراتيجية 2006، فـ”الإرهاب”، وفق الرؤية الأمريكية هو حركة سياسية عقائدية اجتماعية أصولية لها مناخها العام ولها تنظيماتها وبيئتها البشرية، وتمثل بديلا ملائما وربما وحيدا للمحفز الاستراتيجي الذى انتهى بشكله العقائدي والسياسي والقانوني ممثلا في الاتحاد السوفيتي، وهذا البديل الجديد هو “الأصولية الإسلامية ببيئتها الملائمة للعالم الإسلامي، والدول العربية منه في موقع المركز”.

وقد وجدت السياسة الأمريكية في مواجهة الإرهاب العنوان الشمولي الذي كانت تبحث عنه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، فمع وجود الإرهاب توجد نظرية فكرية، ونظام مفترض، وتصور للعالم وللعلاقات الدولية، وأهداف وغايات لها خصوصيتها، ويتمثل كل ذلك في الإسلام السياسي. فبعد فراغ الولايات المتحدة من التهديد الحضاري الشيوعي، أبرزت الإسلام ليتم القضاء عليه من حيث إنه نظام شمولي، وإبقاء دوره الروحي الفردي. وحيث إن الركيزة الأساسية لبناء نظام شمولي تتمثل في الحركات الأصولية، فقد كان على الولايات المتحدة العمل على القضاء عليها مهما كانت، ونظرت في القضاء على تلك الحركات، كأمر حيوي للقضاء على الأمل في تقدم الإسلام إلى السيطرة على العالم.

وسعيا نحو تحقيق هذا الهدف، وغيره من أهداف، تمثلت الأفكار الرئيسة التي تضمنتها استراتيجية الأمن القومي 2006 في أن تكون الولايات المتحدة قوية وآمنة، وأن تهزم استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية أيديولوجية المتطرفين من خلال الترويج لوعد الحرية والديمقراطية. وأن تُقدّم الولايات المتحدة الديمقراطية الفعالة بوصفها أفضل السبل لضمان الحكومات لحرية وازدهار وأمن مواطنيها. وتأكيد أنه يمكن للأمن والديمقراطية الفعالة أن يمكّنا من انتهاج استراتيجية تنمية اقتصادية واجتماعية ذكية، مع العمل على خلق مجتمع من الديمقراطيات الفعالة، كأفضل إطار لمعالجة تحديات العصر الإقليمية والعالمية.

وأكدت الاستراتيجية أن السلام والاستقرار الدوليين يقومان على أساس من الدول الحرّة، وأن الولايات المتحدة ستواصل مساعدة الدول على إقامة وتطوير مؤسساتها الديمقراطية ومجتمعاتها المزدهرة، وتصدّر الجهود الرامية إلى مواجهة الأخطار التي تهدد المجتمع العالمي. والعمل في الوقت نفسه على الترويج للديمقراطية الفاعلة، وتلبية الحاجة إلى اتخاذ المجتمع الدولي والولايات المتحدة دور الطليعة في مواجهة تلك التحديات، باعتبارها أفضل تأهيلا واستعدادا للقيام بمثل هذا الدور.

فالرئيس بوش ومستشاروه توصلوا إلى أن الهجوم الذي تعرضت له الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001، يتطلب تدبير أدوات أخرى للرد عليه، ليس فقط في ذلك الجزء من العالم الذي كان سببا في الهجوم ولكن في النظام الدولي ككل، وأن الطرق والأساليب القديمة في التعامل مع الأمور لم تعد تجدي في ظل الرغبة المسيطرة في تحريك الوضع الراهن من سباته، وحين حدوث ذلك فإن تلك الأجزاء أو المناطق ستضع نفسها في القالب المفضل لدى الولايات المتحدة.

وإذا كان تفكك النظام الدولي القديم سوف يشجع نظاما جديدا على الاندماج التلقائي، قائما على نزعة دولية إلى الأمن والرخاء والحرية، ومعالجة الموقف عن طريق الصدمة والرعب قد تؤدى إلى عالم أكثر أمنا وعقلانية، فإن الادعاء بأن هذه الأشياء سيتم وضعها في أماكنها الطبيعية بعد الصدمة، هو سوء حكم فردي وواضح على الأشياء لإدارة بوش.

وهو ما عبّر عنه المفكر والسياسي الأمريكي (ريتشارد هاس) بقوله “نحن لا نستطيع أن نحكم العالم بمفردنا. لا نملك المصادر اللازمة لذلك. مشاكل اليوم لا يمكن أن تحلها دولة بمفردها، لذا أتمنى أن تغيّر الإدارة الأمريكية من أساليبها وسياستها بما يتلاءم والوضع الحالي. إن إدارة بوش لا تستطيع السيطرة على الوضع الجاري، لا أعتقد أن بإمكانها الإبقاء على سياسة الاعتماد على القوة العسكرية والإبقاء على قوة الوضع الاقتصادي داخليا مع خفض الضرائب، ولا أعتقد أن الإبقاء على سياسة التصرفات المنفردة الأحادية الجانب والتركيز والاعتماد على القوة العسكرية هو في صالح أمن الولايات المتحدة القومي”.

وأضاف “على الرغم من القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة في العالم، فإنها لا تستطيع مجابهة التحديات التي تواجهها بمفردها، بمعنى أنها تحتاج إلى مساعدة بقية دول العالم ومشاركتها كي تنجح في ما ترغب في تحقيقه. لا ينبغي أن ننتظر حدوث الأزمة القادمة بل علينا أن نجلس مع قوى العالم الكبرى للتشاور وتحديد قواعد عمل مشتركة تتضمن ما علينا أن نفعله للحد من انتشار الأسلحة النووية ونزع الشرعية عن الإرهاب وإجهاضه بالإضافة إلى الاتفاق على وضع آلية لمنع عمليات الإبادة الجماعية. نحتاج إلى التباحث حول القوانين والقواعد الأساسية التي يجب أن يتبعها العالم، وما ينبغي علينا أن نفعله لتشجيع دول العالم على الموافقة عليها والخطوات التي يمكن اتخاذها إذا ما انتهكت إحدى هذه الدول تلك القواعد والقوانين”.

إلا أنه في مقابل هذه الآراء، ظل بوش على قناعاته وتصوراته، التي انصب الجانب الأهم منها على الدين الإسلامي بصفة عامة والإسلام السياسي بصفة خاصة، بصورة مباشرة وغير مباشرة. ففي خطابه أمام رابطة قدامى المحاربين الأمريكيين في أغسطس/آب 2007، قال “إن أمريكا تخوض كفاحا عقائديا عظيما، إنها تخوض حربا ضد متطرفين إسلاميين عبر المعمورة. إن هذا الكفاح من أجل مستقبل الشرق الأوسط. إن إلحاق الهزيمة بالمتطرفين في هذه المنطقة المضطربة ضروري لأمن بلدنا، والنجاح في العراق أمر حيوي لكسب المعركة العقائدية الأوسع نطاقا، إن القتلة وقاطعي الرؤوس ليسوا الوجه الحقيقي للإسلام، إنهم وجه الشر. إنهم يسعون إلى استغلال الدين طريقا إلى السلطة ووسيلة للسيطرة على الشرق الأوسط. إن الراديكالية الإسلامية العنيفة التي تلهمهم تتصل بسلالتين رئيسيتين، إحداهما هي التطرف الإسلامي، الذي يتمثل في القاعدة وحلفائها الإرهابيين، والأخرى التطرف الشيعي، مدعوما ومتجسدا بالنظام القابع في طهران”.

المصدر : الجزيرة مباشر