لماذا تحتاج الأمة العربية إلى مؤرخين يكتشفون هويتها الأدبية والثقافية؟!

‏كيف يمكن أن ندرس تاريخ الأدب ولماذا؟! ‏إن تطور الأدب في أي أمة ‏يوضح أهم الخصائص التي تميزها وتثير الاعتزاز ‏بالانتماء إليها.

‏لذلك هل يمكن الاعتماد على ما كتبه المستشرقون عن تاريخ الأدب العربي، ‏وهل يمكن أن يكتشف أولئك المستشرقون الجمال ‏والحكمة في أدب لا يستطيعون تذوقه، ‏ولا ‏يكتشفون جماله؟

‏هناك الكثير من التساؤلات التي يجب أن نجيب عنها قبل أن نؤرخ لأدب العرب، منها:‏ هل يمكن استخدام المناهج الغربية في دراسة هذا التاريخ؟ ‏وهل يمكن أن نشترط الموضوعية في دراسة أدب يحتاج إلى من يكتشف فيه الجمال؟!!

‏الأدب يرتبط باللغة

‏والأدب العربي يتميز بارتباطه باللغة العربية وهي -كما يقول مصطفى صادق الرافعي- ‏أوسع اللغات مدى، وأغزرهن مادة، وأوفاهن بالحاجة ‏الحقيقية للإنسانية لكثرة أبنيتها وتعدد صيغها، ومرونتها على الاشتقاق.

و‏يضيف مصطفى صادق الرافعي أن تأليف الكلام في اللغة العربية يتميز بعذوبة المنطق ‏ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف.

اللغة أساس التميز الحضاري

‏وعناية العرب بتأليف الحروف كانت السبب ‏الطبيعي لعنايتهم بتأليف الألفاظ وأحكام الكلام وتوخيهم ‏روعة الأسلوب وفخامة التركيب، وهو ما تميز به العرب دون سائر الأمم.

وهذه الميزة التي تنبه لها الرافعي توضح العلاقة بين لغة العرب وأدبهم، لذلك فإن الذي يكتب تاريخ هذا الأدب يجب أن يتذوق لغة العرب، ويحسن الاستماع إلى ‏النسيج الصوتي للحروف عندما تتألف منها الكلمات.. ‏فماذا يعني ذلك لمؤرخ الأدب؟!

مؤرخ متميز يكتشف الجمال!

‏إن العرب قد قدموا للإنسانية أدبًا متميزًا ‏بلغتهم التي تستوعب المعاني، ‏بألفاظ وحروف لها جمال موسيقى عذب عندما تتجاور، وهذا ‏يوضح أن هناك خصائص وسمات ‏تميز اللغة العربية، ‏ولا يستطيع أن ينقد ‏الأدب إلا من امتلك القدرة على تطبيق تلك الخصائص.

‏يقول مصطفى صادق الرافعي “‏لقد امتازت ‏اللغة العربية بالعذوبة ‏التي كأنها شباب الحياة ورقتها”.

وهذا يعني أن اللغة العربية تجمع بين الشباب والقوة والأصالة، فهي أحكم اللغات نظاما في التعبير عن المعاني بالألفاظ. وهي أعظمها ثروة وأكثرها قدرة على بناء الحضارة والمدنية.

‏لذلك فإن مؤرخ الأدب العربي لابد أن يمتلك القدرة على تذوق اللغة، والشعور ‏والإحساس بجمالها.

‏علاقة الألفاظ بالمعاني

يقول ابن جنى ‏”إذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، ‏وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، ‏بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، ‏وتنويه بها وتشريف منها، ‏ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه”.

‏وهذا يعني أن اهتمام العرب باللغة يرتبط بالتعبير عن المعاني التي يجب أن تحملها ألفاظ صحيحة معبرة عنها، ‏فلابد أن يتم تقديم المعنى الجميل في ثوب أنيق.

كيف تكسب القلوب؟!

يقول ابن جنى “فكأن العرب إنما تحلي ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها عناية بالمعاني وتوصلًا بها إلى إدراك مطالبها، ‏وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن من الشعر لحكمًا، وإن من البيان لسحرًا”.

‏فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ العرب ‏التي جعلت مصايد للقلوب، ‏وسببًا وسلّمًا ‏إلى تحصيل المطلوب، ‏عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني.

بلاغة العرب فن متميز!

‏بذلك فإننا يمكن أن نكتشف سمة مهمة في أدب ‏العرب هي التعبير عن المعاني بألفاظ ومفردات يتم اختيارها بعناية لتعبر عنها، وفي الوقت نفسه تضفي على المعاني جمالًا وعذوبة وقوة، وهو ما أدى إلى ‏ظهور علوم مهمة مثل البلاغة العربية.

‏كما أنه من أهم سمات العرب الفصاحة التي ترتبط بقوة التعبير ‏عن المعاني بألفاظ يتم اختيارها لتشكل موسيقى ونغمًا ‏يهز القلوب.

‏لذلك تحدى الله سبحانه وتعالى العرب في أهم ما يعتزون به ويتميزون، وهو استخدام اللغة العربية في التعبير عن المعاني ونقل المعرفة، والفصاحة والبلاغة والبيان.. ‏فأدرك العرب أهمية هذا التحدي ومعناه وقوته، وأنهم بالرغم من كل قدراتهم التي تطورت عبر الزمن على استخدام مفردات لغتهم للتعبير عن المعاني لا يستطيعون أن يأتوا بآية واحدة.

مرحلة بناء الحضارة!

‏لذلك نقل القرآن ‏العرب إلى مرحلة جديدة هي استخدام اللغة العربية في بناء حضارة تقوم على نشر ‏المعرفة ونقل رسالة ‏الإسلام إلى البشرية.

‏إن القرآن شكل مرحلة جديدة في تطور أدب العرب، ‏واستخدام اللغة للتعبير عن المعاني، ‏مرتبطة بأهداف جديدة، من أهمها التعبير عن الحكمة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بإدراك ‏مكانة الإنسان في الكون، ‏ووظيفته في عبادة الله الواحد الأحد، وعمارة الأرض، ‏وبناء الحضارة القائمة على المعرفة، ‏التي تعطي لكل إنسان معنى لحياته.

‏وهذا المعنى هو الذي يفجر طاقاته ‏للإبداع والابتكار والتعبير.

علاقة قوية بين الفروسية والفصاحة!

‏ولقد ارتبط استخدام اللغة العربية بالفروسية، ‏حيث عبر الفارس العربي عن بطولاته وأمجاده وكرمه ومروءته وعزة نفسه بلغة قوية ترتبط بالمجد.

‏لكن الإسلام دفع الفارس العربي الذي يستخدم الكلمات ليعبر عما يحققه ‏من مجد ‏شخصي إلى التعبير عن معان ‏جديدة ترتبط بالوظيفة الحضارية للأمة الإسلامية، ‏ودورها التاريخي.

‏في ضوء ذلك فإننا لا يمكن أن ندرس تاريخ الأدب العربي بعد الإسلام بمعزل عن التاريخ الحضاري، ‏ودور الأمة في بناء حضارة متميزة.

‏فلم يعد الفارس العربي يعبر فقط عن مجده الشخصي وقوته، ولكن مجده الشخصي أصبح يرتبط بحضارة ‏تشرق شمسها على البشرية ‏فتضيء القلوب ‏والنفوس والعقول التي أصبحت تعبد الله وحده. ‏وتلك هي الحرية الحقيقية التي أصبح أدب العرب يعبر عنها بعد الإسلام.

أدب يعبر عن أمة تنطلق!

‏لقد حرر الإسلام ‏أدب العرب من وصف الماديات، فانطلق إلى وصف مشاعر إنسانية ترتبط بعمل مستمر للقيام بوظيفة حضارية.

‏والفارس العربي الكريم -الذي يتميز بقدرته على استخدام لغته في التعبير عن معاني حضارية وإنسانية جديدة- انطلق ليحطم ‏الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، ‏ويحرر البشرية من طغيانهما وظلمهما وقسوتهما، فتجلت كل المعاني المشرقة في سلوكه وكرمه. فهو ‏قوي يستخدم قوته بشكل رشيد ليحرر البشرية من الظلم والطغيان، وهو فصيح يستخدم لغته في التعبير عن المعاني المتميزة التي وجه الإسلام قلبه وعقله إليها. ‏وبذلك فإنه لم يكن قائدًا في الحرب ‏يحقق المجد والنصر فقط، بل ‏كان أيضًا قائدًا للمعرفة.

مؤرخ يكتشف المعاني الحضارية

‏وهنا تتجلي سمات ‏جديدة لا يدركها إلا مؤرخ ينتمي للحضارة الإسلامية. فهذا ‏المؤرخ يمكن أن يكتشف المعاني الحضارية التي يعبر عنها العرب وهم ينطلقون من جزيرتهم إلى العالم ينشرون العلم والمعرفة، ‏ويعلمون كل إنسان معنى الحياة.

‏لذلك فإن تاريخ الأدب العربي يحتاج إلى نوعية جديدة من المؤرخين ينتمون للحضارة الإسلامية ويفهمون المعاني الجديدة التي يعبر عنها الفرسان العرب وهم ينطلقون ليحرروا البشرية من العبودية لغير الله.

‏كما أن تاريخ الأدب العربي يحتاج إلى تطوير مناهج جديدة لا تكتفي بدور العقل وحده في استقراء النصوص وتفسير معانيها، ‏فهناك مصادر أخرى للحصول على المعرفة من أهمها الذوق والوجدان ‏والإحساس بالجمال.

نوعية جديدة من المؤرخين!

‏كما أن تفسير تلك النصوص ‏يحتاج إلى فهم الحضارة الإسلامية بشكل شامل. ‏لذلك فإن نقد ما كتبه المستشرقون عن الأدب العربي ضرورة، ‏ويمكن أن يشكل بداية لاستخدام الأدب العربي في إنتاج معرفة تحتاج إليها البشرية في ‏قرنها الحادي والعشرين.

‏الأدب العربي يحتاج إلى نوعية جديدة من المؤرخين تستخدم مناظير ومناهج ‏وأدوات جديدة، ‏تربط الألفاظ بالمعاني، ‏وتكتشف ‏جمال اللغة في التعبير عن تلك المعاني الجديدة التي وجه الإسلام الفارس العربي للتعبير عنها.

‏وبالرغم من الاعتراف بأهمية ما كتب خلال القرن العشرين حول تاريخ الأدب العربي، ف‏إننا نحتاج إلى مرحلة جديدة يساهم فيها أدب العرب في بناء مجتمع معرفة ‏إسلامي متميز يربط جمال اللغة بالمعاني الحضارية، ‏ويوجه الإنسان للخروج من ضيق المادة والغرائز ‏والشهوات والضعف الإنساني إلى سعة القوة والبطولة والفروسية والفصاحة ‏والحضارة.

‏إن الأمة تحتاج إلى مؤرخين جدد للأدب العربي يكتشفون الهوية الأدبية والثقافية للأمة ويعبرون عنها.

المصدر : الجزيرة مباشر