سربرينيتشا.. صفحة منسية من التواطؤ وازدواجية المعايير

بوش وغورباتشوف أثناء احتفالهم بمرور 20 عاما على سقوط جدار برلين

صفحات من التاريخ كتبت بمداد من دماء وأرواح أنفس بشرية بريئة، وصور قاتمة من حروب إبادة ومجازر جماعية، تقف جميعها شاهدة على فشل نظام دولي مختل المعايير، منذ لحظة قيامه في القرن العشرين، مرورا بفترة الثنائية القطبية، وحتى فترة الأحادية القطبية، حيث أصبحت أمريكا القطب المهيمن على السيادة العالمية.

” مذبحة سربرينتشا” صفحة من التاريخ، يكاد يُنسى الفاعل الحقيقي الواقف وراءها، والذي كان صمته وتواطؤه محركا لها ولمذابح أخرى، سواء في حرب البوسنة أو غيرها، منذ القرن العشرين وحتى وقتنا الراهن.

بقعة سوداء في جدار البيت الأبيض

“سربرينيتشا” جرح غائر، وصورة قاتمة لحرب إبادة جماعية ضد مسلمي البوسنة والهرسك، وشاهد على فشل النظام العالمي، ونموذج صارخ للتواطؤ وازدواجية المعايير، ووصمة أخلاقية، وبقعة سوداء في جدار البيت الأبيض الأمريكي، في ولاية جورج بوش الأب، ومن بعده بيل كلينتون في فترة ولايته من عام 1993 حتى عام 2001.

الأسوأ في أوربا

لقد صُنفت “مذبحة سربرينيتشا” بأنها أسوأ واقعة قتل جماعي في أوربا، منذ الحرب العالمية الثانية. وقد راح ضحية المذبحة -التي دارت أحداثها بين 11 و22 يوليو/ تموز عام 1995- أكثر من 8000 مسلم من الرجال والفتيان، الذين جُمعوا في حافلات واقتيدوا إلى مواقع القتل، كما تعرض الكثير من النساء لعمليات اغتصاب، وطُرد أكثرُ من 20000 مدني من سكان المنطقة.

لقد كانت المذبحة إحدى الصور الصارخة الفظاعة والوحشية تجاه مسلمي البوسنة والهرسك، في ظل تواطؤ أمريكي غربي غير مسبوق، يتحمل مسؤولية مئات الآلاف من القتلى والجرحى، وتهجير أكثر من مليون ونصف مليون شخص من شعب البوسنة والهرسك.

تساؤلات حول الدور الأمريكي

في “مذبحة سربرينيتسا”، هناك جانب يكاد يطويه النسيان، أو يُراد له ذلك، يتعلق بمسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها، وقلما يتم تناوله وكشف أعماقه؛ لبيان الدور الحقيقي فيما حدث من مجازر وحشية في حق المسلمين بالبوسنة والهرسك.

لقد كان موقف البيت الأبيض الأمريكي من حرب البوسنة محل تساؤلات عديدة؛ فقد كان شديد الغموض والتضارب، ولكن ظهرت بعد ذلك ملامح التواطؤ، وازدواجية المعايير، سواء بالصمت علنا أو التأييد سرا.

التاريخ يسجل

كانت أمريكا وقت نشوب حرب البوسنة في أوج تسيدها للعالم، حيث برزت قيادتها العالمية عقب أزمة الخليج.

وقد اندلعت الحرب في وقت كان فيه زخم الحديث عن النظام العالمي الجديد، الذي يوفر آليات لحل الصراعات، وبحكم أن الولايات المتحدة هي المحرك الفعلي والمهيمن على النظام الدولي، فقد كان بإمكانها القيام بدور فاعل في وقف الحرب والمجازر ضد المسلمين.

في ذلك الوقت كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب يَعدُ العالم بإقامة نظام دولي قائم على العدل والحرية، ورفض الاعتداء على الآخرين، مؤكدا أن هذه هي القيم والمبادئ الأخلاقية، التي تنطلق منها الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد سجل التاريخ، أن الحرب في البوسنة كانت إحدى العتبات التي كشفت زيف وعود الرئيس الأمريكي جورج بوش، ومن بعده الرئيس كلينتون؛ حيث كان الصمت والتواطؤ للقضاء على دولة البوسنة، وترك شعبها المسلم نهبا لحملة إبادة وتطهير عرقي.

ورغم أن المبادئ والقيم التي نادى بها القائمون على النظام الدولي الجديد -وقالت الولايات المتحدة إنها انطلقت بناء عليها؛ لتقود تدخلا دوليا ضد غزو العراق للكويت عام 1990- أهمها منع الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، وعقاب المعتدي، ورفض تركه يجني ثمار عدوانه، وكل هذه المبادئ كان يستدعيها المشهد البوسني، فإنها تلاشت وضُرب بها عُرض الحائط.

ولقد سجل التاريخ تصريحات جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي السابق، خلال زيارته بلغراد، العاصمة اليوغسلافية آنذاك، في يونيو/حزيران 1991، التي أكد فيها حرص بلاده على وحدة اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية، رغم كل المؤشرات المؤكدة لانفصالها. وقد اعتبر ميلوسوفيتش التصريحات بمثابة ضوء أخضر لاستخدام الجيش اليوغسلافي ضد الجمهوريات التي أعلنت استقلالها، ومنها البوسنة والهرسك.

التقاعس الأمريكي

لقد كان مجرد التهديد باستخدام القوة ضد الطرف الصربي المعتدي، دون أدنى توجه جدي بتدابير للتفعيل هو جوهر الموقف الأمريكي، كما افتقد مجلس الأمن أي دور أمريكي نشط، يدفع نحو اتخاذ قرارات دولية.

لقد كان بإمكان الولايات المتحدة على أقل تقدير أن ترفع حظر الأسلحة المفروض على المسلمين في البوسنة، ولكنها لم تفعل ذلك، في الوقت الذي لم تنقطع فيه إمدادات السلاح عن الصرب والكروات، بغض طرف دولي.

ورغم أن تدخلا بشكل ما، وتهديدا جديا بذلك، إذا لم يلتزم الصرب والكروات بمطالب الشرعية الدولية؛ كان الحل الوحيد لإيقاف المجازر الوحشية ضد مسلمي البوسنة، ومواجهة الأزمة، فإن الولايات المتحدة لم تتبنّ خيارا جادا، وكانت على خط واحد مع بريطانيا، التي رفض وزير خارجيتها دوغلاس هيرد منح المسلمين الفرصة المكافئة للرد والدفاع عن أنفسهم؛ وذلك بدعوى عدم تصاعد الأعمال القتالية؛ وهو ما يعني ترك مسلمي البوسنة والهرسك فريسة سهلة للإبادة الوحشية، التي مارسها الصرب والكروات ضدهم.

مبررات لا تصمد

وعلى جانب آخر، سيقت في ذلك الوقت تبريرات للتقاعس الأمريكي عن منع المجازر في حق المسلمين في البوسنة، مقارنة بالموقف الأمريكي من غزو العراق للكويت، وكان منها انتفاء وجود مصالح استراتيجية، ومصاعب يعانيها الاقتصاد الأمريكي، وصعوبة تدبير موارد، والخوف من تراجع شعبية الرئيس بوش، وافتقاد إجماع شعبي. كما سيقت مبررات من قبيل خشية توتير العلاقات مع روسيا، التي كانت تدعم الصرب، إضافة إلى أن أي تدخل عسكري أمريكي سيكون محلا لاستياء اليونان وبلغاريا ورومانيا، وهذه جميعها مبررات ثبت أنها لا تستقيم أمام الحقيقة التي كانت خلف الموقف الأمريكي.

حقيقة الموقف الأمريكي من حرب البوسنة

إن الموقف الأمريكي السلبي من حرب البوسنة كانت له أبعاد أخرى، لا تصمد أمامها تبريرات تتجاوز لبّ الحقيقة وراء سلبية الموقف الأمريكي من تفتيت دولة وإبادة شعبها. ويمكن إجمال هذه الأبعاد على النحو التالي:

تقسيم البوسنة كان مطلبا يتفق مع الأهداف الأمريكية، ترحب به الإدارة الأمريكية في السر، وتعارضه في العلن، من دون أي تحرك جاد لوقفه. كانت الإدارة الأمريكية ترى استمرار الحرب في البوسنة داعما لأهدافها؛ لضرب محاولات بناء أمن أوربي منفصل، وإغلاق الطريق أمام مساعٍ فرنسية وألمانية لإقامة جيش أوربي مشترك، بعيدا عن حلف شمال الأطلسي. كما أن تقسيم البوسنة، وقيام دولة إسلامية ضعيفة، بين دولتين قويتين، دولة صربية وأخرى كرواتية؛ سيكون سببا في توترات وحروب عرقية ستجعل أوربا ضعيفة، ومنكفئة على مشاكلها، وكذلك سيؤثر في تركيا، والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. وقد هندست الإدارة الأمريكية استراتيجيتها تجاه حرب البوسنة انطلاقا من أن استمرار الصراع لفترة معينة، سوف يؤكد عجز القوى الأوربية عن القيام بدور فعال سياسيا أو عسكريا، خاصة في ظل الانقسامات التي كانت تسيطر على مواقف الجماعة الأوربية تجاه الحل العسكري.

انتقادات للموقف الأمريكي

ونتيجة لموقف الولايات المتحدة السلبي، الذي بدا متواطأ، تعالت حدة الانتقادات، وإزاء تصاعد غضب الرأي العام الدولي، تبنت الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها بعض المواقف، التي مثلت مجرد وعود جوفاء، لا محل لها من التنفيذ، ولم تكن سوى غطاء لإعطاء الصرب مزيدا من الوقت للإجهاز على المسلمين، في الوقت الذي كانت العاصمة البوسنية سراييفو تمطر بنحو ألفي قذيفة مدفعية يوميا.

وقد انتقد عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين مواقف إدارة كلينتون، ووزير خارجيته وارن كريستوفر، المتضاربة بين المعلن والحقيقة المخفاة، وقدم خمسة دبلوماسيين استقالتهم احتجاجا على حرب الإبادة ضد مسلمي البوسنة.

كما احتج عدد من المسؤولين الأمريكيين على موقف البت الأبيض، ووصفوه بأنه عار، منهم من كان خارج كراسي الحكم؛ مثل الرئيس السابق رونالد ريغان، ووزيري الخارجية السابقين، هنري كيسنجر، وجورج شولتز، وقد نادوا بضرورة تسليح المسلمين للدفاع عن أنفسهم، وشاركهم في ذلك عدد من المسؤولين الأوربيين الذين لم تمت ضمائرهم، ورأوا أن مواقف حكوماتهم تمثل عارا على جبين الإنسانية، مما دفع بعضهم إلى الاستقالة، ومنهم الوزير الألماني كريستيان شولتز.

ختاما

لقد كان موقف أمريكا والحلفاء الأوربيين، من حرب البوسنة، والمجازر الوحشية في حق المسلمين، مضربا للمثل في التواطؤ، وإهدار القيم وحقوق الإنسان، والتنازل عن الإنسانية، والازدواجية الصارخة في المعايير، ففي الوقت الذي يعلنون فيه الدفاع عن مسلمي البوسنة يحاصرونهم، وبينما يمنعون عنهم السلاح، يمدون به الصرب والكروات؛ كل ذلك جعل أمريكا والغرب شركاء في حرب إبادة وتطهير عرقي بكافة تفاصليها.

إن ما حدث من مذابح وانتهاكات على مدار عقود يقدم عبرة، ويؤكد أن الواهمين فقط هم من ينتظرون نصرة القوى الدولية للديمقراطية وحقوق الإنسان، ما لم يتقاطع ذلك مع مصالحهم، وهذا قد لا يكون مطلقا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسلمين.

سربرينيتشا صفحة من تاريخ عالمنا الحديث، في حقبة زمنية تسيدت فيها أمريكا العالم، وحاولت قيادته تبعا لمصالحها، التي في سبيلها سجل عليها التاريخ فصولا من التواطؤ، وازدواجية المعايير، وإهدار حقوق الإنسان، كانت سربرينيتشا وحرب البوسنة فصلا منها لا يُنسى.

المصدر : الجزيرة مباشر