اليونان وتوظيف قضية تراقيا الغربية لاستفزاز تركيا

وكأن التوتر الذي تشهده العلاقات التركية اليونانية بسبب حجم الخلافات وتباين الرؤى حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية لا يكفي من وجهة نظر الحكومة اليونانية، لتقوم بتوسيع نطاق الأزمة المتصاعدة بين الدولتين، وإضافة عامل توتر جديد، تمثل في مصادقة برلمانها مؤخرًا على قانون ينظم عمل الإفتاء في منطقة تراقيا الغربية ذات الأقلية التركية.
ويبدو أن قضية قبرص، وتقسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط إلى جانب بقايا مرارة العداء التاريخي الحاكمة لمجمل علاقات البلدين ليس هذا كله كافيًا من وجهة النظر اليونانية حتى تقوم بهذه الخطوة في هذا التوقيت بالتحديد، وكأنها تهدف من وراء زيادة التضييق على الأقلية التركية في تراقيا إلى استفزاز تركيا وإثارة حنقها، وزيادة حدة الخلافات معها لسبب في نفس يعقوب.
هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها الحكومة اليونانية باتخاذ إجراءات تحد من الحرية الدينية للأقلية التركية في منطقة تراقيا الغربية، وتمارس ضغوطًا شديدة لمنعهم من إظهار أي طابع يتعلق بهويتهم التركية، أو يربطهم بتركيا بأي شكل من الأشكال، إذ لا تعترف أثينا بهم كأقلية تركية، وتطلق عليهم اسم “يونانيون مسلمون” وهو ما ترفضه تركيا، وتراه انتهاكًا لاتفاقية لوزان التي ضمنت حق الأقليات في الحفاظ على هويتهم الوطنية، ومعتقداتهم الدينية، ومنحتهم الحق في ممارسة طقوسهم بكل حرية.
تراقيا الغربية قضية خلافية تاريخية بين أنقرة وأثينا
قضية تراقيا الغربية من القضايا الخلافية التاريخية بين أنقرة وأثينا، يعود تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، حين فرض الحلفاء سيطرتهم عليها عام 1919، حتى التوقيع على معاهدة سيفر 1920، التي منحت السيطرة عليها لليونان، وتم تقسيم المنطقة بين تركيا واليونان وبلغاريا بموجب اتفاقيات نوبي 1919، وسيفر 1920، ولوزان 1923، التي نص ملحق فيها على تبادل إلزامي للسكان بين البلدين، فتم إجبار حوالي 500 ألف مسلم يوناني للجوء إلى تركيا، كما أجبر حوالي مليون ونصف المليون مسيحي أرثوذكسي تركي على الهجرة إلى اليونان، ومع هذا تم حدوث بعض الاستثناءات لهذه العملية، إذ ظل عدد من المسلمين في تراقيا، وعدد من المسيحيين في إسطنبول وجزر إمبروس وتينيدوس لكونها موطنهم، وتم تصنيفهم تحت اسم “أقليات دينية”.
في هذه الفترة كان المسلمون يشكلون حوالي 67% من سكان تراقيا الغربية، بينما يشكل اليونانيون حوالي 18% من السكان، أما الباقون فكانوا من الأرمن واليهود والبلغاريين. وقد نصت معاهدة لوزان على ضرورة احترام الحقوق العرقية والإثنية لهذه الأقليات الدينية، كما منحتهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية تامة، وفي الاحتفاظ بعاداتهم الاجتماعية، وثقافاتهم الموروثة دون تدخل من السلطات الحاكمة في الدول الثلاث.
وهي البنود التي التزمت بها تركيا في تعاملها مع الأقلية المسيحية الأرثوذكسية على أراضيها، حيث توفر لهم الحقوق كافة، وتتيح لهم حرية تعيين البطريرك، واختيار أسماء يونانية سواء لأبنائهم أو لأماكن إقامتهم وممارسة موروثاتهم الثقافية والاجتماعية، بينما لا تعترف اليونان بوجود أقلية تركية في تراقيا الغربية، لكنها تعترف فقط بوجود أقلية مسلمة تحمي حقوقهم معاهدة لوزان، بينما تواصل ضغوطها الرامية إلى تغيير الهوية العرقية والإثنية لهم، وتفرض عليهم نمط حياة يخالف معتقداتهم الدينية وموروثاتهم الثقافية.
قيود ثقافية وقمع ديني وانتهاكات مستمرة لاتفاقية لوزان
ووفقًا لتقرير صدر عن منظمة حقوق الأقليات، فإن الأقلية التركية في تراقيا الغربية تعاني من فرض قيود واسعة تمنع إنشاء الجمعيات الأهلية، وممارسة ثقافتهم، والتعلم باللغة التركية، ووصف التقرير الصادر عام 2019 ما يحدث من جانب الحكومة اليونانية ضد الأقلية التركية هناك بـ”التهديد الخطير لهويتهم”، مشيرًا إلى أن اليونان تتدخل في تعيين المفتي لهذه الأقلية، بدلًا من السماح لأفراد الأقلية بانتخابه، وهو ما يعرقل حريتهم الدينية، وينتهك في الوقت نفسه بنود اتفاقية أثينا التي تنص صراحة على حق سكان المنطقة في انتخاب المفتي، وفي المقابل لا تعترف الأقلية المسلمة بالمفتي المعيّن، ويقوم أفرادها بانتخاب المفتي الخاص بهم، وهو ما يضعهم في مواجهة قانونية غير متكافئة مع السلطات المحلية.
ويتعرض مسلمو تراقيا للعديد من الهجمات من جانب الجماعات اليمينية المتطرفة بدافع الكراهية، مع صمت الحكومة اليونانية وإحجامها عن عدم اتخاذ أية خطوات فعلية لحمايتهم، أو الاعتراف علنًا بهم كأقلية تركية، وتوفير الحماية اللازمة لهم، ومنحهم الفرصة للتمتع بكامل حقوقهم كأقلية مسلمة تعيش في كنف الدولة.
واتهمت بعض المنظمات الحقوقية اليونانية صراحة الدولة بقمع السكان في هذه المنطقة، ومنعهم من التعبير عن هويتهم التركية، وهو ما تنفيه الحكومة اليونانية، التي قامت بإغلاق الجمعيات الأهلية التي تحوي أسماؤها كلمة تركية.
وفي العام الماضي قررت السلطات اليونانية إغلاق 4 مدارس للأقلية التركية في تراقيا الغربية للعام الدراسي 2022–2023، وكانت الحكومة اليونانية قررت قبل ذلك إغلاق رياض الأطفال، وحظرت تدريس اللغة التركية كلغة ثانية لطلاب المدارس هناك، في انتهاك صريح لنصوص اتفاقية لوزان، وللأحكام الصادرة من المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، والتي تنص في مجموعها على حق الأقليات في استخدام هويتهم العرقية، وممارسة ثقافتهم وإنشاء مدارسهم وإدارتها بمعرفتهم، ولا تتوقف الممارسات اليونانية عند هذا الحد، إذ تحظر بناء أية مساجد لإقامة الصلاة والشعائر الدينية فيها، كما أنها تمنع إقامة مقابر للمسلمين، وتجبرهم على دفن موتاهم في مقابر المسيحيين.
وفي أزمة جائحة كورونا استثنت السلطات اليونانية معلمين من الأقلية التركية من عملية التطعيم حيث خلت قائمة المعلمين المشمولين في التطعيم من أسمائهم، رغم إعدادها قائمة ضمت معلمي المدارس ضمن الفئات الأكثر احتياجًا لتلقي التطعيم، وهو ما اعتبر نوعًا من سياسة التمييز التي تنتهجها الحكومة اليونانية ضد مسلمي تراقيا البالغ عددهم 150 ألف نسمة.
اتهامات تركيا لليونان بالسعي لطمس هوية مسلمي تراقيا الغربية
الحكومة التركية وفي إطار ردها على الممارسات القمعية للحكومة اليونانية قدمت تقريرًا للمقارنة بين أسلوب معاملتها للأقلية اليونانية في تركيا، وبين نمط تعامل اليونان مع الأقلية التركية في تراقيا الغربية، والتي تخالف في مجملها الاتفاقيات الموقعة والقرارات الدولية الخاصة بهذا الشأن، بهدف حظر كل ما هو تركي، لطمس الهوية التركية لمسلمي تراقيا الغربية، وأوضح التقرير أن الحكومة اليونانية تمنع فتح مدرسة عندما يكون عدد الطلاب أقل من 9 بينما تسمح تركيا لليونانيين لديها بفتح مدرسة لـ4 طلاب فقط، ويساوي عدد المدرسين الذين تخصصهم الدولة التركية لثلاثة آلاف طالب يوناني لديها نفس عدد المدرسين الذين تخصصهم اليونان لـ150 ألف طالب تركي. إلى جانب قلة عدد المدارس الثانوية في تراقيا، التي تحوي مدرستين فقط للأتراك متهالكتي المباني، وقِدم الكتب الدراسية المقررة فيهما، ورفض السلطات اليونانية تغييرها.
سياسة طمس الهوية التركية عن الأقلية المسلمة في تراقيا الغربية، ومحاولات سلخهم عن وطنهم الأم وثقافتهم التركية التي تمارسها اليونان منذ عقود طويلة، فشلت فشلًا ذريعًا في الماضي، ولم تأت بالنتائج التي طمحت إليها الدولة اليونانية حتى يومنا الحاضر، مما يعني أنها لن تنجح أيضًا في المستقبل، فمتى يتراجع الساسة اليونانيون عن هذه السياسة؟ ويحاولون مد جسور الأخوة والإنسانية مع أقلية تركية مسلمة تعيش على أراضيهم وبين كنفهم، وليبحثوا عن ملف آخر لمضايقة تركيا إذا كان ذلك شيئًا مهمًا بالنسبة لهم.