فجر الإسلام.. فيلم الحرية والعقل والتحرر من الخوف

ظل فيلم فجر الإسلام الذي قدمته المؤسسة العامة للسينما عام 1972 أهم أفلام السينما المصرية في تاريخها حتى ظهور فيلم الرسالة للمخرج السوري العالمي مصطفي العقاد عام 1976، وأخرج الفيلم المصري المخرج الكبير رائد الواقعية المصرية صلاح أبو سيف، وهو الفيلم الوحيد الذي أخرجه من بين سلسلة الأفلام الدينية التي قدمتها السينما المصرية، وهم ثلاثة أفلام: (فجر الإسلام)، و(الشيماء) لحسام الدين مصطفي و(هجرة الرسول) لإبراهيم عمارة.
فجر الإسلام عن قصة وحوار عبد الحميد جودة السحار، وهو واحد من رواد الكتابة الدينية في الدراما المصرية والعربية، والذي شارك أيضا في كتابة فيلم الرسالة. ولعل أبرز ما يميز فيلم فجر الإسلام الحوار الراقي له، إذ لم تفلت من السحار جملة واحدة طوال الفيلم لم تكن مؤثرة في السياق الدرامي، وهذ الصراع في الحوار ارتقى بالفيلم خاصة في بعض المشاهد الشعرية بالفيلم.
العقل طريق النور
بداية الفيلم مبشرة بصراع الكلمة واللغة من خلال ثلاث شخصيات رئيسية فيه: شخصية الفضل التي أداها ببراعة الفنان الكبير يحيي شاهين في دور لا يقل روعة عن دوره في فيلم (شيء من الخوف)، والفضل هو روح العقل والتفكير الذي يهديه إلى كراهية كل ما تفعله القبيلة، فهو تاجر لا يقبل الربا في تجارته عكس القبيلة، يكره العبودية للإنسان ويعامل العبيد معاملة حسنة يبدو ذلك جليا في تعامله مع (ليلى) وأبيها اللذين تم أسرهما واشتراهما، ويؤمن بعدم عبادة آلهة من أحجار وخشب، وفي حوار مع هاشم بن الحارث كبير القبيلة وتجارها يقول له الفضل: “كيف أعبد الخشب والخشب تأكله النار فيقول هاشم: إذن أعبد النار، فيقول الفضل النار يطفئه الماء، فيقول هاشم : فلتعبد الماء، ويرد عليه الماء تسقطه السحاب”، وهكذا يظل الصراع ليقول الفضل إن لهذا الكون إلها أكبر من هذا كله.
الشخصية المقابلة للفضل هي شخصية الحارث أكبر تجار القبيلة الذي يمارس تجارة الرقيق، ومع أصحاب الرايات الحمر ويعمل بالربا، ولا يعبأ بممارسة كل أنواع الرذيلة، وفوق ذلك فهو صاحب سلطان على كل القبيلة، وقد لعب الدور الفنان الكبير محمود مرسي. يستغل الحارث الفضل في التجارة، والعبيد في العمل، والنساء في البغاء، ويتمسك بعبادة الأصنام ظنا منه أنها تحمي تجارته وسلطانه.
هاشم بن الحارث شاب القبيلة وقرة عين أمه وأبيه، حائر بين طاعة أبيه والاستجابة لما يصدقه عقله، تحاول ليلى والفضل تحريره وإعمال عقله للتفكير في جدوى طاعته العمياء لأبيه وفي الوصول إلى الحقيقة.
يخرج الفضل وبعده هاشم إلى مكة حيث الدعوة المحمدية، يتأنى الفضل ويستخدم عقله في الوصول إلي الإيمان، ثم يؤمن فيحرر عبيده ويدعو إلى الإسلام الذي اهتدى إليه.
هاشم بن الحارث الشخصية التي أداها الفنان عبد الرحمن علي في أول بطولة سينمائية له، بعد أن ذاع صيته إعلاميا متميزا، يخرج هاشم متتبعا الفضل بعد اتهام ظالم له بقتل خاله ليقتله، لكن هاشم في مكة يهديه عقله وقلبه إلى النور الإلهي فبعود لقبيلته مع الفضل مسلمين.
العلم يحدد مكانتك
يشتد صراع الحارث مع الفضل وهاشم بعد العودة من مكة، يرى الفضل الدين الجديد محررا للعبيد، ويعيد الكرامة للنساء وينقذ من مارسن البغاء. يرى الحارث عبدا أسود يقود المسلمين اسمه الحباب، ويحارب الحارث هذا الدين الذي يفقده سطوته، وتخرج سيوف الحارث وتابعيه ضد المسلمين ويقود الفضل المسلمين للمعركة، لكن الحباب يوقف الجميع فلم يأذن الله للمسلمين بالقتال.
تشاهد سلمى زوجة الحارث الموقف وتتعجب من أن يسمع الجميع كلمة الحباب الأسود، تسأل ابنها هاشم فيقول لها ” لأنه أكثرنا علما، وهو الأعلم بمبادئ الدين الإسلامي”.
تطلب سلمى من ابنها العودة إلى عبادة الأصنام، ويدور حوار كتبه ببراعة السحار حول هذه الآلهة التي لا تملك من أمرها شيئا، ثم تذهب إلى ليلى بعد هجرة ولدها إلى مكة لتقول لها أن هذا الدين أفقدها هي أيضا حبيبها، فترد ليلى أنه في مهمة أعظم للبشرية، وتحاول ليلى إقناع سلمى بالإسلام فتقول لها إنها خائفة فترد ليلى ” أن الإسلام يحررنا من الخوف، ويمنحنا الكرامة الإنسانية جميعا”.
تزداد قناعة سلمى بعد اكتشافها إسلام حنظلة عبد الحارث، ويقدم لها حنظلة سورة قرآنية (الغاشية) لتسلم سلمى زوجة الحارث، يكتشف الحارث إسلام عبده حنظلة و زوجته بعد ابنه، فتزداد ثورته، ويخرج هائما على وجهه يناجي أصنامه أن تنصره فلا يجد إجابه و يدخل النور عقل الحارث، ليعلن إسلامه و يقود القبيلة إلى يثرب حيث هاجر الرسول الكريم لتبدأ رحلة بناء الدولة الإسلامية بالعلم و العقل، الحرية والكرامة، العدل و المساواة.
صلاح أبو سيف والسحار رؤية خاصة
قدم صلاح أبو سيف للسينما المصرية اربعين فيلما سينمائيا بدأ بفيلم (نمره 6) عام 1942، وآخرها كان الفيلم التليفزيوني (السيد كاف) عام 1994، اشتهر أبو سيف أنه مخرج الواقعية المصرية، فقد نقل السينما المصرية إلى الحارة وأجوائها، وقدم أفلاما عبرت عن رؤيته الاشتراكية واليسارية.
لا يستطيع أي ناقد أن ينكر فكر أبو سيف الواضح على فيلمه فجر الإسلام فقد استطاع مع عبد الحميد جودة السحار أن يقدم رؤيته الثورية للإسلام حيث القيم التحررية وكرامة الجميع وإعمال العقل وقيمة العلم في الإسلام والقيم الروحية له.
يأتي مشهد هاشم مع إحدى النساء من بائعات الهوى في حوار مهم حول كرامتها وروحها وقلبها الإنساني من المشاهد التي أبرزت قيمة الكرامة الإنسانية.
شارك في فيلم فجر الإسلام الوجهان الجديدان في ذلك الوقت نجوى إبراهيم بعد فيلمها الأول الأرض، وعبد الرحمن علي كوجه سينمائي جديد مع كوكبة من نجوم السينما المصرية: يحيى شاهين، محمود مرسي، سميحة أيوب، أحمد توفيق، أحمد خميس وغيرهم.
يذكر للفيلم أنه قدم مكانا جديدا غير مكة موطن النبوة وفجر الإسلام، كذلك قدم شخصيات مختلفة عن شخصيات مكة والمدينة، وعرض الفيلم لكل أمراض المجتمع الجاهلي، وكذلك ارتقى بلغة الحوار، وأبرز براعة القبائل العربية في اللغة العربية، التي هي معجزة القرآن.
فيلم فجر الإسلام كان من المقرر أن ينتجه مدير التصوير السينمائي عبد العزيز فهمي -الملقب بملك النور لبراعته في توزيع الإضاءة السينمائية- لكنه لم يستطع لنحو خمس سنوات بسبب الميزانية التي قدرت ب80 ألف جنيه، وهو رقم ضخم في ذلك الوقت.
قدم عبد العزيز فهمي الفيلم للهيئة العامة للسينما التي وفرت 120 ألفا لإنتاج الفيلم، كان عاطف سالم مرشحا لإخراج الفيلم، ولبطولته نور الشريف وسعاد حسني، ولكن حادثا أصاب المخرج عاطف سالم، فذهب الفيلم إلى صلاح أبو سيف ليقدم أيقونة سينمائية وواحدا من أهم الأفلام الدينية في تاريخ السينما المصرية، ولا ننسى أن نذكر أغنية الختام التي كتبها الشاعر الكبير المتصوف عبد الفتاح مصطفى وهو الذي صنع فيلما آخر بأغانيه هو فيلم الشيماء وله قصة آخري.
سنرى الفجر القريب
من دجى الليل العصيب
وبأيدينا سنرمي ويد الله تصيب
هذه الأمة قوة .. من صفاء وإخوة
وإن تحداها عدو .. راح في أظلم هوة.