قصة وادي النطرون مع الرهبنة ومسار العائلة المقدسة

لوحة العائلة المقدسة للفنان الايطالي فرانشيسكو فويتباسو في القرن الـ18

 

وزيرا التنمية المحلية والسياحة المصريان ومحافظ البحيرة، افتتحوا مؤخرا طرقا أسفلتية بطول 24 كيلومترا، مؤدية إلى أديرة وادي النطرون، وأعمال ترميم لكنائس ومواقع أثرية داخل الأديرة، وسط زفة إعلامية صاخبة.. جرى وصف هذه الأعمال “رسميا”، بأنها تجديد لمسار “العائلة المقدسة” التي حلت بمصر وباركتها قبل أكثر من ألفي عام، في حين أن هذه الأديرة الأثرية عمرها 1600 عام، أي لم تكن موجودة أصلا. هذه الأعمال مطلوبة جذبا للسياحة الدينية، ولا اعتراض.. لكن العائلة المقدسة حين مرت بوادي النطرون، توقفت عند بحيرة الحمراء، أو “نبع مريم”، وباركتها، لتروي ظمأ السيد المسيح.. بينما هذه البحيرة لم تمتد إليها يد التطوير أو التجديد، أو الاستثمار، رغم إمكاناتها العلاجية، وقيمتها الدينية حسبما يبين بعد قليل.. لكنه التركيز على “الشو” الإعلامي دون الفعل.

 العذراء والمسيح إلى مصر فرارا من ملك يهودا والسامرة

رحلة “العائلة المقدسة” إلى مصر (في العام الثاني الميلادي تقريبا) ذات أهمية روحية لدى مسيحيي العالم بكافة مذاهبهم، كما أن مسار العائلة في رحلتها المباركة بالأراضي المصرية، ابتغاء للسلامة والأمان، هو من المعالم والمزارات المسيحية ذات القداسة. يشمل “المسار” 25 محطة في ثماني محافظات لمسافة 3500 كيلومتر، قطعتها العائلة المقدسة ذهابا وعودة من سيناء إلى أسيوط، في رحلة الفرار الشاقة للعائلة من فلسطين انطلاقا من بيت لحم، التي استمرت ثلاث سنوات ونصف السنة.

الرواية المسيحية وملاك الرب وحلم يوسف النجار

طبقا للرواية المسيحية، فإن إنجيل متى يذكر أن “ملاك الرب ظهر ليوسف النجار في الحلم، وقال له “قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك”، فقام يوسف واصطحب الصبي عيسى (عمرة عام ونصف تقريبا) وأمه مريم إلى مصر، حيث كان حاكم اليهود هيرودس ملك يهودا والسامرة، في زمن ولادة المسيح، يزمع قتل المسيح، على خلفية نبوءة بأنه سيكون خطرا على مُلكه، فلما مات هيرودس، جاء الملاك إلى يوسف في حلمه وأمره بالرجوع من مصر.

تحنيط الفراعنة وميزان القلوب ومدفن البابا شنودة

عودة إلى “وادي النطرون” على مسافة 105 كيلومترات شمال غرب العاصمة المصرية القاهرة، فلها شأن كبير في العصر الفرعوني، باسم حقل النطرون.. كان الفراعنة يستخدمون “ملح النطرون” من بحيراتها في تحنيط موتاهم، لحفظ الجثث، اعتقادا بأنهم سيعودون إلى الحياة. “وادي النطرون” -المعروفة سابقا باسم “برية شهيت” أي ميزان القلوب- تحتضن أربعة أديرة قبطية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي، بداية بدير الأنبا مقار، والسريان، والبراموس، وانتهاءً بالأنبا بيشوي المدفون به القديس بيشوي (320- 417م)، وبابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر البابا شنودة الثالث (1923- 2016م)، وهو البابا رقم 117 في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

تجمّع الرهبان الأوائل وبحيرة السماء

هذه “الأديرة الأربعة” عامرة بكنائس تاريخية وحصون وعناصر وأسوار أثرية غاية في التفرد، على الطراز المعماري القبطي، وترجع إليها نشأة الرهبنة واستمراريتها حتى الآن، فقد كانت تجمّعا لـ”الرهبان الأوائل” في المسيحية، وهي مزار لآلاف المسيحيين سنويا من شتى بقاع الأرض، ومن المحمود أن يتم ترميم الكنائس والمواقع الأثرية بها.

نأتي إلى قصة العائلة المقدسة مع بحيرة الحمراء بوادي النطرون، المسماة في زمن الفراعنة “بحيرة السماء”.. هذه البحيرة تحوي مياها شديدة الملوحة على مساحة نحو 15 فدانا، وللغرابة ففي الوسط منها “نبع” تتدفق منه المياه العذبة باستمرار دون انقطاع، معروف باسم “نبع مريم”.

 عطش المسيح وبحيرة الحمراء وشفاء الأمراض الجلدية

قصة “نبع مريم” -حسب التراث المسيحي- ترجع إلى أن “المسيح” عانى العطش الشديد في صحراء وادي النطرون، فلم تجد العذراء مريم سوى تلك البحيرة ذات المياه “الفائقة الملوحة”، فخاضت مسافة أمتار داخل البحيرة، وأخذت بعض الماء بيدها، لتروي عطش ابنها، فإذا هو “ماء عذب”، وينفجر نبع المياه العذبة في مكانها، ولا يزال -حتى يومنا هذا- متدفقا بارتفاع نحو متر ونصف المتر عن سطح الماء المالح، ويُطلَق عليه “نبع مريم”، وهي معجزة بالتأكيد، وترجح صحة الرواية.

الاستحمام في مياه هذه البحيرة -بدوره- يشفي أمراضا جلدية عديدة، والروماتويد حسب تجارب شخصية لأفراد، ورغم الاهتمام الحكومي بمسار العائلة المقدسة في مصر، فإن “بحيرة الحمراء” أو السماء لم تحظ بما تستحقه من استثمار واهتمام حكومي يُذكر، رغم تكرار الوعود بإعدادها للسياحة العلاجية.

الأديرة والحصون العتيقة.. وابنة الملك زينون

إذا عدنا إلى أديرة وادي النطرون، فـ”كل دير” منها محاط بسور سميك مرتفع يزيد على عشرة أمتار، وعدد من القلالي (جمع قلاية)، وهي غرفة بقبو منخفض يتعبد فيها الراهب وينام، ويحوي كنائس، ومخطوطات قبطية وجداريات، وموائد حجرية وشواهد أثرية عديدة. كما يضم كل دير “حصنا” منيعا، للاحتماء به من غارات “البربر” المهاجمين على مدار القرنين الرابع والخامس للنهب والسلب، وهو مبنى منفصل يرتبط بالدير بـ”جسر خشبي” مرتفع عن الأرض، له سلاسل حديدية يُطوى بها، فإذا شعر الرهبان بالخطر، سارعوا إلى الحصن وأغلقوا الجسر خلفهم، فلا يمكن الوصول إليهم.

استنادا إلى موقع دير الأنبا مقار الإلكتروني، فالحصن العتيق بالدير بناه الملك زينون عام 428م، من ثلاثة طوابق بأبعاد 50 و22 مترا، لما علم بالتحاق ابنته “إيلارية” بحياة الرهبنة في الدير، وتخفّيها باسم الراهب إيلاري. وفي الحصن مخازن للكتب والمخطوطات، والحبوب والمؤن اللازمة للتحصن داخله لفترة، وهو مشابه لحصون الأديرة الأخرى.

السياحة الدينية أو العلاجية أو غيرهما تحتاج إلى عمل دؤوب، وليس مجرد “شو” إعلامي، ومظاهر احتفالية بتطوير هنا أو هناك، مثلما تتطلب تغييرا في السلوكيات ومتابعة وتوفيرا للإمكانات اللازمة لراحة السائح وضمان استمتاعه بالرحلة.

المصدر : الجزيرة مباشر