نحن في بداية الغرق.. ماذا وراء كارثة الفيضانات في السودان؟!

هنالك اتهامات يصعب تجاهلها بأن سد النهضة الإثيوبي وراء غرق منطقة المناقل وتدمير المشاريع الزراعية، مثل ما كان سبباً في فيضانات العام 2020

في كل خريف تجتاح السودان سيول وفيضانات، تغمر آلاف المناطق السكنية، وتتسبب في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وأحيانًا يبتلع النهر العنيد المشروعات الزراعية والحيوانية والخزانات، وريثما يهدأ يكون كل شيء قد تحطم وتلاشى، ومع ذلك شعر الناس بأن سيول وفيضانات هذا العام -التي أَخذت الناس على حينِ غِرّة- ليست طبيعية، أو أن وراءها أيادي خفية، خصوصًا أننا ما زلنا في بداية الغرق.

كارثة وشكوك

المشهد ينذر بخطر كبير، خمس ولايات حتى الآن اجتاحتها السيول، الأمطار تهطل بكثافة، مناسيب النيل بلغت درجات غير مسبوقة، آلاف المنزل والمشروعات الزراعية غمرتها المياه، مسحتها بالكامل، وما تبقى أشبه بقطع البسكويت المبتلة، في أي لحظة قد تذوب فوق رؤوس قاطنيها، دورات المياه انهارت، أجساد الأطفال والنساء معرضة للدغات العقارب والأفاعي والحشرات السامة، آلاف الأسر تحت العراء، في الحقيقة لا يوجد عراء، لا طعام ولا دواء ولا ماء صالح للشرب، ولا مكان للصلاة، لا مقابر لدفن الموتى، ولا جهد وطني أو شعبي يوازي تلك الكارثة، التي هى أكبر من إمكانيات الناس، وإمكانيات الدولة التي تعاني أزمة اقتصادية عنيفة.

بدأت الشكوك عندما حمّل حاكم إقليم دارفور أركو مناوي الحكومة السابقة ولجنة إزالة التمكين مسؤولية السيول والفيضانات التي اجتاحت القرى والمدن هذا العام، وذلك بالإشارة إلى فصل وتشريد مئات المهندسين والفنيين في وزارة الري، على خلفية انتماءاتهم السياسية، أو ربما نتيجة لأسباب أخرى لا يريد مناوي الإفصاح عنها.

لكن الأدهى والأمرّ هو ما نسبته وكالة الأنباء السودانية لوزير الري والموارد المائية المهندس ضو البيت عبد الرحمن، ومن ثم قامت بحذفه من الموقع في وقت لاحق. وقد أرجع الوزير الفيضانات والسيول -التي اجتاحت منطقة المناقل وسط السودان- إلى فتح قنوات وممرات مائية بالخطأ، مما نجم عنه تدفق المياه من النيل الأزرق والخيران الرافدة، وأشار إلى أن حجم الأمطار هذا العام مرتفع بنسبة 53 ملليمترًا، والسيول أعلى 24 مرة من سيول وفيضانات العام 1985 التي قضت على الأخضر واليابس، وتحولت إلى حالة قياسية.

تصريحات وزير الري والمكاتبات الداخلية والصور التي أظهرتها أقمار صناعية لفتح بوابات أحد الخزانات لتمرير المياه، والحديث عن تورط إثيوبيا في فيضانات السودان مؤخرًا، من خلال الاستمرار في ملء سد النهضة بطريقة أحادية، والأخطاء الفادحة للمسؤولين، وتحوّل الماء في السودان من نعمة إلى نقمة، كل ذلك يفتح المجال لأسئلة مهمة، جديرة بالالتقاط، وشكوك حول ما يجري في الخفاء.

الابتزاز الاستراتيجي

هنالك اتهامات يصعب تجاهلها بأن سد النهضة الإثيوبي وراء غرق منطقة المناقل وتدمير المشروعات الزراعية، مثل ما كان سببًا في فيضانات العام 2020، بعد الملء الأول، ولا سيما أن إثيوبيا بعد الملء الثالث في 12 أغسطس/آب، بدأت بفتح بوابات سد النهضة مباشرة، الذي حجز وراءه 22 مليار متر مكعب من المياه، عملت كوسادة مائية لتمرير مليارات الأمتار المكعبة من المياه عبر الممر الأوسط للسد، نحو سد الروصيرص السوداني، الذي فتح أبوابه لتمرير الكميات المهولة من المياه وصولًا إلى سد سنار ومنه إلى الترعة الرئيسة لمشروع الجزيرة والقنوات الفرعية التي انفجرت تحت الضغط  المائي.

إثيوبيا إن لم تكن متورطة بشكل مباشر، فإن لديها مصلحة في تهديد السودان، وذلك على خلفية تدهور العلاقات بين الخرطوم وأديس أدبابا مؤخرًا، وقيام الجيش السوداني بتحرير منطقة الفشقة التي كانت تحت سيطرة الجيش الإثيوبي، ومواقف السودان الأخيرة الرافضة لطريقة ملء السد نفسه، وبالتالي فإن التحكم في كميات هائلة من المياه بالقرب من سدود ومناطق سودانية، يجعل السودان تحت رحمة السلطات الإثيوبية، التي أصبحت تتعامل مع مياه النيل بطريقة احتكارية، تتصرف فيها كأن النيل ينبع ويصب فيها، ولا يمر بدول أخرى لديها حقوق متساوية، وتتأثر بأي خطوات أحادية من خلال حبس المياه أو تمريرها، فضلًا عن أن سد النهضة بطريقة إدارته الغامضة، أو في حال انهياره، يشكل تهديدًا للأمن القومي السوداني، وهو ما يعني أننا فعليًّا دخلنا مرحلة الابتزاز الاستراتيجي، نتيجة لضعف الدولة.

تضييق مجرى النهر

لا شك أن ما يجري حول النيل في العاصمة الخرطوم يستحق دق ناقوس الخطر، مخططات ومشروعات استثمارية على ضفاف النهر تفتقر إلى المواصفات الفنية والرؤية الهندسية، بحيث تنهض المباني بعد ردم ضفة النيل بالتراب والصخور، لخلق مساحات، وينتج عن ذلك تضييق المجري، ويتسبب كل ذلك في كارثة سنوية، لأن المياه ترتفع وتتحرك صوب الأماكن المنخفضة، وتبتلع الجُزر والأحياء الفقيرة، وسط ضعف تقوية أنظمة الإنذار المبكر ونظام المتابعة، ولذلك رفض الناس قبول تقييد ما حدث في المناقل وقرى النيل الأبيض ضد مجهول، فهنالك من يعبث بالنيل.

نحن الآن في بداية الغرق، ونحتاج إلى وضع خطة ذكية وفاعلة للتعامل مع هذه الكارثة، والحد من خطورتها، وحفر الترع والخزانات والآبار لاحتواء الكميات الهائلة من المياه، والاستفادة منها في مواسم الجفاف، والعودة لتفعيل مشروع حصاد المياه، فلا يُعقل أن يتحدث العالم عن المجاعة، ويعاني السودان أزمة في الغذاء، ولدينا أراضٍ زراعية خصبة ومصادر متعددة للمياه، بقليل من التخطيط يمكن تفادي سنوات الجدب والبقرات العجاف، كما فعل سيدنا يوسف، ويمكننا إيقاف هدر المياه، لننعم بعد ذلك بأعوام فيها يغاث الناس وفيها يعصرون.

المصدر : الجزيرة مباشر