ازدواجية المعايير.. الصداقة بين الفضيلة والمصلحة

تمثال لـ "أرسطو"

 

لا شك أن الصداقة هي واحدة من أجلِّ النِّعم الممنوحة للإنسان في رحلة حياته ومغامرته على الأرض، ولكنها مثل كل النعم، موضع اختبار للإنسان، ينبغي عليه أن يعرف قيمتها وكيفية المحافظة عليها وتوظيفها على الشكل الذي يستحق معه زيادتها {وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}. هل فكرت يومًا أن الأشخاص الذين لا يجدون أصدقاء حقيقيين صادقين في ودهم، فإنهم أنفسهم ليسوا من هذا النوع من الأصدقاء على أي حال، فالمرء على دين خليله.

إن أولئك الذين يعانون من عدم قدرتهم على بناء صداقة حقيقية والعثور على أصدقاء حقيقيين، إنما يعانون من فقر مدقع، لأنهم لا يعرفون كيفية تكوين صداقات، ولا يعرفون مَن هم الأصدقاء الذين يمكن أن تجمعهم بهم صداقة، ولا يدركون كيف يعاملونهم لأنهم لا يعرفون من يكونون؟ ففاقد الشيء ليس لديه القدرة على تصوره، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن ناحية أخرى، فإن معظم ما أتحفتنا به الفلسفات والأدبيات عن الصداقة ومقتضياتها وما صبغت به الأصدقاء من سمات، لا نجد آثاره إلا في إغلاق أعيينا وإصابتنا بالعمى عمن حولنا من أصدقاء.

الصداقة عند أرسطو

فمن توابع المبالغة في فرض خصائص بعينها للصداقة، وتحميل الصديق ما لا يحتمل مما ننتظره منه مقابل تلك الصداقة، أن تكون النتيجة الحتمية إنهاء إمكانية تكوين الصداقة قبل بدايتها من الأساس، بل حتى فيها قتل للصديق نفسه، كما أن انتظار أن يكون كل صديق انطلقنا معه في رحلة صداقتنا، هو الخضر نفسه، يقودنا إلى النهاية ذاتها.

وبما أننا نحن أنفسنا لسنا الخضر، ولا يمكننا أن نكون كذلك، فكيف يمكن لانتظارنا من شخص آخر أن يكون الخضر، أن يجعله مثلنا ولديه القدرة على التفاهم معنا؟ والتشابه المقصود في هذا السياق لا يتعلق بالميزات التي ننسبها لأنفسنا، بل إنه يتعلق بما لا نعرفه وبما نتوقعه من الشخص الذي لا نعرفه، وبأننا نزج به في غياهب سجون توقعاتنا الخاصة وعالم تخيلاتنا.

وما دمنا بصدد الحديث عن الصداقة، من غير المنطقي المضي دون ذكر المقولة الشهيرة المنسوبة إلى الفيلسوف أرسطو، والتي تناقلت الروايات (رُوِيَ) أنه قال “أيها الأصدقاء! ليس هناك أصدقاء”.

وقد استخدمت الفعل الدال على عدم معرفة الراوي، لأنه تبعًا لعدد من الدراسات، يقال إنَّ أصل هذا الكلام كما نقله (أغامبين) “من لديه كثير من الأصدقاء، ليس لديه أي صديق”، وقد تحرف الكلام وتحول من العبارة الثانية إلى الأولى عند تناقله في المؤلفات والملتقيات، هذا ومما لا يمكن إنكاره أن كلا النمطين من التعبير قد أسهم واقعيًا في تطوير أدب الصداقة وتنوعه في مسارات منفصلة، فحينما ننظر إلى سردية “لا يوجد صديق” نجدها تعبيرًا غالبًا ما يستشهد به للدلالة على تعريفات مبهمة أو مواقف متناقضة حول الصداقة.

وقد نقل الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا هذا القول المنسوب لأرسطو “أيها الأصدقاء، ليس هناك أصدقاء”، وجعله محور كتابه الشهير “سياسات الصداقة”، وهكذا رجَّح دريدا هذا الشكل المحرَّف، على الرغم من أنه يعرف (تبعًا لتنبيه أغامبين على الأقل) أن هذا ليس هو التعبير الأصلي، وهذا الترجيح كان لأن التعبير المحرف سيخدم خياله أكثر من الآخر.

وهذه دعوة من دريدا للأشخاص الذين يخاطبهم باسم “أصدقائي” للتساؤل عن مدى استعدادهم للاستماع إليه منه نفسه أو من أولئك الذين يتخذونهم أصدقاء. إلى درجة أنه لا يتردد برهة في استدعاء الذين رأوا أنفسهم قد بلغوا منزلة رفيعة من الصداقة، ويناديهم “أصدقائي” للاستماع إليه أو قراءة ما يجري به قلمه، لأنه لا بد من حد أدنى من الصداقة إلى جانب مقدار من الود والرغبة في التواصل والتفاهم المتبادلين للقراءة والكتابة الجيدة، وهذا متاح في هؤلاء.

ظهور المهدي والعقيدة اليهودية

لا يوجد صديق الآن. لا يوجد صديق لم يعان وطأة التصورات والتوقعات السائدة حول الصداقة، بل ويفنى تحت أعبائها. حتى أولئك الذين ينتظرون المهدي صديقًا لهم، فإنهم يعرفون ويحفظون تفاصيل كل ما سيفعله عندما يظهر، وعندما يسعى هؤلاء للوصول إلى الشخص الذي تتوافق صفاته مع توقعاتهم، ثم يستمعون إلى حديث ديني له، إلى أي حد سيكون ذلك الحديث متماشيًا مع توقعاتهم إيجابًا أو سلبًا؟ فعن أي مهدي يتحدث هؤلاء، وأي مهدي اخترعه أولئك الذين يتشبثون بالمحتالين الذين يتماشون مع تصوراتهم الذهنية عن المهدي؟

في الواقع، يقيم دريدا فلسفة الصداقة تلك بطريقة تفتح الطريق إلى الارتباط بالعقيدة اليهودية في المسيح، وفي هذا السياق خاصة، فإن أسلوب تعامل بني إسرائيل أنفسهم مع الأنبياء والمسيح، الذين ظلوا طوال تاريخهم ينتظرونه، واضعين نصب أعينهم أنهم سيؤمنون بهم ويلتفون حولهم كالأصدقاء، ويطيعونهم ويتبعونهم، صورة نموذجية لتجربة الصداقة. حيث إن حقيقة خروج النبي الذي كانوا ينتظرونه من بين مجتمع أمي ليس منهم، كان كافيًا بالنسبة لهم ليعدلوا عما شيدوا من تاريخ في انتظاره، وإغلاقهم الآذان مباشرة أمام ما يقول. رغم أنه هو من كانوا ينتظرونه، علاوة على ذلك، فإن ما قاله لم يكن مختلفًا في الكثير عما قالوه أنفسهم.

يمكننا أن نبدأ بمواجهة هذا السؤال: ما مدى استعدادنا لقبول الصديق الذي سيغيرنا ويعيد إحياءنا؟ هل لدينا ما يكفي من التصميم والإرادة على عدم الانحراف الذي يؤدي إلى صناعة عدو من ذلك الصديق في وقت قصير، والدفع به بعيدًا على الفور عندما لا يخرج كما يتماشى مع توقعاتنا؟ وبهذا نكون قد استمعنا إلى الأسئلة التي طرحناها من قبل حول الصداقة مرة أخرى كما عبر عنها دريدا.

أنواع الصداقة

إذا رجعنا إلى أصل عبارة (أرسطو) الذي أشار إليه (أغامبين)، أي مقولة “من لديه كثير من الأصدقاء، ليس لديه أي صديق”، فسيتعين علينا أن نرى الصداقة قيمة يمكن مشاركتها مع عدد قليل جدًا من الأشخاص، وتشرع قيمتها في الانخفاض مع زيادة محيط المشاركة. كما أننا سنواجه صعوبة في فهم الشروط العددية لتوصيف أرسطو للصداقة في أنواع ثلاثة. على الرغم من أنه لا أحد لديه أصدقاء يعد أي علاقة قائمة على المنفعة والمصلحة صداقةً، لكن تلك المظاهر في الواقع تتجلى في جزء كبير من العلاقات الاجتماعية الحالية، كما أن الصداقات القائمة على المتعة تخرج في شكل المحبة، يجب أن تكون محدودة لأن مشاركتها أيضًا لا تعتمد على شيء سوى المتعة. ومع ذلك، فإن الحدود والشروط المحيطة بالصداقة، والتي تجعلها علاقة تستند إلى الفضيلة بين أشخاص صالحين، مرتبطة بمدى تشكُّل هذه الفضيلة.

يا ترى هل أفق صداقتك أو قلبك لا يتسع سوى لشخص واحد فقط أو لعدد محدود جدًا من الأشخاص؟ وهل حقًا يمكن تعريف الصداقة على أنها نمط تام الصفاء من أنماط العلاقة بين أشخاص محدودين للغاية؟ وما الذي يحُول بيننا وبين التفكير في الصداقة على أنها شكل من أشكال الوجود الذي يمكن مشاركته مع المزيد من الناس، لدرجة قد يشمل معها جميع الناس، ما دام يستند إلى الفضيلة؟ بالطبع لا يمكن أن نكوّن صداقات مع كل الناس. كما أن تكوين علاقات صداقة مع الأشرار، يقلل من فرص الصداقة مع الأخيار، ويصل إلى درجة خيانتهم. علاوة على ذلك، فإن جميع الأنبياء قد دخلوا في علاقات عداوة مع أممهم. وهكذا فإن الذي يكون صديقًا ودودًا مع الجميع ليس لديه في الواقع فضيلة، وكل ما يشاركه في صداقته لا يمكن أن يكون فضيلة، ولا يمكن أن نتغافل عن أن محبة الجميع دون التمييز بين الخير والشر بفلسفة الحب في الصوفية، لها أثر خطير على الصداقات التي أقيمت على الخير والفضيلة، تصل إلى تدميرها.

في الحقيقة، إن الانشغال بالتفكير في مسألة الصداقة، هو عمل أكثر بكثير من مجرد حديث عن تجربة خاصة مشتركة بين أشخاص محدودين، حتى أنه يفتح أمامنا نافذة على تدبر وجودنا البشري الكلي.

سلام على الدنيا إذا لم يكن بها

صديق صدوق صادق الوعد منصفا

المصدر : الجزيرة مباشر