50 مجزرة.. 50 هولوكوستًا

محمود عباس (أبو مازن)

ما قاله الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يوم الثلاثاء الـ16 من الشهر الجاري، بشأن ارتكاب إسرائيل (50 مجزرة، 50 هولوكوستًا) ضد الشعب الفلسطيني، صحيح، بل إنها إحصائية متواضعة أمام واقع المجازر التي يواصل المحتل ارتكابها.

مذابح تفوق العدد والحصر، محارق ممتدة، ليس منذ سنة 1947 فقط، كما ذكر عباس، بل منذ أن بدأت العصابات الصهيونية تتدرب وتتسلح وتشرد وتقتل الشعب الفلسطيني صاحب الأرض عقب وعد بلفور، هذا الوعد جريمة بريطانية تاريخية كبرى في حق فلسطين والعرب.

عباس، وهو في مقر الحكومة بألمانيا، سُئل في المؤتمر الصحفي مع المستشار أولف شولتس، عما إذا كان سيعتذر نيابة عن الفلسطينيين الذين احتجزوا الرهائن في أولمبياد ميونيخ، في الذكرى الخمسين للواقعة، تجنّب الردّ مباشرة، وأجرى مقارنة مع الوضع الحالي في الأراضي الفلسطينية، متهمًا إسرائيل بارتكاب (50 مذبحة، 50 هولوكوستًا) ضد شعبه منذ 1947.

مجازر ومحارق واحتلال شنيع

السؤال خبيث، لكن الرئيس الفلسطيني كان ذكيًّا في إجابته بالحديث عن المجازر الإسرائيلية معتبرًا إياها محارق، ومذكرًا العالم بأن النبش في الماضي ليس في صالح إسرائيل، الماضي والحاضر فصول صهيونية مستمرة من القتل والطرد والتشريد والعدوان واغتصاب الأرض والفصل العنصري وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني وإهدار القوانين والمواثيق الدولية، وممارسة أشنع احتلال في تاريخ العالم الحديث، ليس احتلالًا مؤقتًا سيرحل يومًا مثل كل الاحتلالات منذ فجر التاريخ، وإنما هو احتلال يسرق الأرض ويستوطنها ويُقصي أهلها منها، وهي أرض لا حق للمحتل فيها، يغتصبها بقوة السلاح والدعم الغربي المفتوح في ظل حالة مزرية من الضعف والهوان الطويل للعرب والمسلمين.

لماذا يغضب الألمان من عباس؟

تصريح عباس أغضب نخبة الحكم والسياسة في ألمانيا، وممثلي الجالية اليهودية، وإسرائيل، ذلك أن هذا التصريح المزعج لهم خرج من أكبر مسؤول فلسطيني يتعامل معه الغرب باعتباره طيّعًا ليّنًا معتدلًا وفق مقاييسهم، فإذ به يقول الحقيقة، وهم لم يكونوا يتخيلون صدور هذا الكلام منه، وهذا يؤكد أن الفلسطيني لا يتخلى عن ثوابت قضيته، ومهما كان متساهلًا لظروف واعتبارات سياسية فوق طاقته، فإنه حتمًا ينطق بلغة الحق المبين.

صرخة عباس تنطلق من قلب دار المستشارية، وهذا كان مذهلًا لألمانيا الرسمية وللساسة وقادة الأحزاب والإعلام هناك، وهي التوليفة التي تدين لإسرائيل بولاء مطلق، وهم يتنافسون في إرضائها وطلب الصفح منها عن محارق الحكم النازي خلال الحرب العالمية الثانية في حق اليهود، لكن هذا الاستسلام المطلق يعميهم عن تحري العدل مع معاناة وحقوق الشعب الفلسطيني.

هل المحرقة محصورة في اليهود؟

وما أذهل الألمان أن تخرج كلمة هولوكوست من ألمانيا إلى العالم، ولا يكون المقصود بها استحضار ما جرى لليهود فقط، كأن كلمة المحرقة أصبحت في القواميس حصرًا عليهم وحدهم، فلا تُذكر في جرائم مماثلة، ولا مع شعب آخر يتعرض لنفس الجرائم، والشعب الفلسطيني يعيش في قلب المحرقة ويقاومها، ليس منذ نصف قرن فقط، وإنما منذ بدأ اليهود ينظمون صفوفهم ويتحركون لإرهاب الفلسطينيين وسفك دمائهم واحتلال مناطقهم بقوة السلاح.

محارق النازية ضد اليهود استمرت عامين أو ثلاثة فقط، نعم راح ضحيتها الملايين، لكن محارق الفلسطينيين متواصلة، وضحاياها بلا نهاية؛ من شعب مدافع عن وجوده، إلى أرضه المنهوبة.

والمحرقة النازية لم تستهدف اليهود وحدهم، هم كانوا أكثر الضحايا عددًا، فقد شملت ألمانًا؛ العجزة وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة والمتخلفين عقليًّا، والغجر والسود وعرقيات أخرى في أوروبا غير الجنس الآري الذي ينتمي إليه الألمان.

ومحارق الفلسطينيين تقع على أيدي اليهود الذين ذاقوا ويلات المحارق على أيدي النازيين، وهم يكررونها مع شعب آخر لا علاقة له بجريمة فظيعة حدثت لهم، والغرب يصمت أو يدعم العدوان الإسرائيلي المستمر في خنوع وانهيار أخلاقي وإنساني مريع.

كسر الدائرة الحديدية للهولوكوست

الغضب الألماني الإسرائيلي على عباس بسبب أن تصريحه يُسقط المحرمات، ويكسر الدائرة الحديدية للمحرقة، فاليهود يغلقونها على أنفسهم وحدهم، ولا يسمحون لأحد غيرهم بأن يصرخ بأنه يتعرض لإبادة، وعندما يضرب عباس هذا السوار الحديدي الصلب، ويقول لليهود إن المحرقة ليست حكرًا عليكم، وليست عذابات تتفردون بها وحدكم، وليست جريمة تاريخية بشعة يندى لها الجبين أصابتكم بمفردكم، بل هناك محارق مستمرة لشعبي، وأنتم يا ضحايا المحرقة تقومون بتنفيذها، وتنتقمون من شعب مسالم لم يمارس أي عنف اتجاهكم.

سيف معاداة السامية

النخبة الألمانية انتفضت ضد عباس ومن لا يفعل ذلك منهم فإنه يُتهم بمعاداة السامية، هناك خوف ترسخه السياسة الألمانية من كلمة هولوكوست والسامية وإسرائيل، ففي ألمانيا يجوز أن تفعل كل شيء وأي شيء، وأن تنتقد المقدسات، لكن لا تقترب من إسرائيل أو الهولوكوست بشكل سلبي، ولا تشكك في حدوث المحرقة، ولا في عدد الضحايا الذي اعتمدته إسرائيل، وهو ستة ملايين يهودي. وفي أوروبا والغرب كله تسود نفس الأفكار والمحاذير، وإلا فالتهمة جاهزة، وهي معاداة السامية، والتهوين من المحرقة، والتحريض على كراهية اليهود، والتعاطف مع النازية، والمحاكم جاهزة، وسبق أن حُوكم مؤرخون ومفكرون وكتاب بسبب دراسات أكاديمية تتقصى فقط عدد ضحايا الهولوكوست، منهم الفرنسي روجيه جارودي، والبريطاني ديفيد إيرفينج.

ليس لأي موضوع قداسة تماثل موضوع الهولوكوست في ألمانيا وأوروبا والغرب، وهو ما تكرس إسرائيل جهدها للحفاظ عليه بعدما نجحت في تثبيته وجعله خطوطًا حمراء وتابوهات، لأن هذه القضية هي تجارتها ومصالحها ومنافعها وانتهازيتها واستغلالها لأوروبا وتخويفها لكل من يقول كلمة حق لصالح الفلسطينيين بأن تتهمه بمعاداة السامية، ودعم الإرهاب والتطرف.

أن يقول عباس بعد ذلك إن المحرقة أبشع الجرائم في التاريخ الحديث، فهذا لا شيء فيه، طبيعي أن المحرقة جريمة شنعاء، ولا يوافق أي إنسان سوي على الإبادة الجماعية لأي كان، وعباس بتوضيحه هذا لا يلغي منطوق وأثر تصريحه القوي، ولهذا حاز استقبالًا شعبيًّا طيبًا عند عودته إلى فلسطين مما يعني تفاعل الشعب مع الكلمة الصحيحة عندما يعلنها الحاكم دون قلق أو حسابات طويلة معقدة.

المصدر : الجزيرة مباشر