ازدهار سياحة الموت!

أعادت الحرب الأوكرانية الروسية إلى الأذهان مرة أخرى سياحة الموت، أو سياحة الخطر أوما يمكن تسميته أيضا بالسياحة الظلامية كما يحلو للبعض تسميتها، وهي سياحة اعتادها بعض السياح المغامرين، وظهرت في أوج الصراع في أفغانستان بين قوات الغزو الأمريكي وحركة طالبان.

في بداية الشهر الماضي أعلن الموقع الإلكتروني “زيارة أوكرانيا اليوم” عن البدء في تنظيم عدة رحلات سياحية لزيارة مدن تشهد قتالا بين القوات الروسية الغازية والقوات الأوكرانية التي ما زالت تدافع عنها بشراسة وتمنع الروس من اقتحامها، وأطلق الموقع على هذه الرحلات اسم زيارة المدن “الشجاعة”. وفكرة الرحلة تهدف إلى عرض أسلوب وطرق معيشة السكان في ظل الغزو، وشجاعتهم في الدفاع عن مدنهم، والرحلة مصحوبة بمرشدين سياحيين مدربين جيدا، ويضمنون قسطا كبيرا من أمن السياح.

تحذيرات دولية

رغم التحذيرات الدولية من زيارة أوكرانيا في الوقت الراهن، نجد أن الموقع أو الشركة السياحية استطاعت فعلا تلقي طلبات من 150 شخصا يريدون الزيارة، ويرون أن برنامج الرحلة مثير جدا، طبعا هذا من وجهة نظرهم!

تبرير الشركة أو فلسفتها تقوم على أن الحياة يجب أن تستمر حتى مع الحرب، ويجب أن يتعلم الناس كيف يتعايشون بعضهم مع بعض وقت الحرب، وهو أمر قد يكون مثيرا للكثيرين خاصة إذا قاموا بالتجربة بأنفسهم!

كانت هذه السياحة تتركز من قبل في سوريا، وأفغانستان، واليمن، والسودان، وكان يتم الترويج لها في بورصة برلين السياحية سنويا قبل أزمة كورونا، وهي سياحة ليست جديدة، بل إن أحد البريطانيين قضى إجازة على شواطئ الصومال وقت عنف الحرب الأهلية، ونقل تجربته المثيرة وسط الخطر الذي كان يهدده، مما جعل زيارته فريدة للغاية.

أشهر الأماكن في الدول العربية

في اليمن وسوريا والسودان كذلك شركات سياحية تدعو زبائنها لزيارتها، وتتجاهل تماما أمر الحرب والمخاطر التي قد يتعرض لها السائح، مثلا في اليمن يستمرون في الترويج لزيارة جزيرة “سقطرى” الخلابة في رحلات تستمر 5 أيام وسط ترتيبات أمنية مشددة. ليبيا أيضا دخلت على الخط وبدأت تدعو لزيارة شواطئها وصحرائها المميزة، أما العراق فلم يتوقف طيلة الغزو الأمريكي وأزماته السياسية من الترويج للسياحة الدينية، وفي مصر أيضا كان الترويج لزيارة معالم وشواطئ سيناء مستمرا رغم التوترات الأمنية المتواصلة في شبه الجزيرة.

هل هي سياحة أخلاقية؟

البعض يطرح سؤالا حول أخلاقية هذه السياحة؟ وهل هي جذابة فعلا للسائح؟ وكيف يمكن لإنسان وسط موت يهدده أن يشعر بمشاعر سائح يستمتع بالتقاط صور؟

لا شك أن هناك أمرين يتحكمان في هذه السياحة الظلامية، الأمر الأول هو رغبة السائح نفسه في خوض المغامرة لإشباع رغباته في رفع مستوى الأدرينالين عنده، والأمر الآخر هو رغبة تلك الدول في استغلال الأهوال التي وقعت على أراضيها من أجل الترويج للسياحة لمساعدة اقتصاد البلاد الواهي.

بالتأكيد هذه السياحة ليست وليدة اليوم، فهي موجودة تحديدا منذ بداية القرن السابع عشر، ونذكر أن ملايين السياح كانوا يزورون سنويا كمبوديا لمشاهدة سجون الإبادة الجماعية في سبعينيات القرن الماضي، وفي ألمانيا وبولندا كان السياح يزورون معسكرات الاعتقال النازي ومحارق اليهود، وهناك أيضا سياح كانوا يرغبون في زيارة أماكن الاقتتال في رواندا، والتطهير العرقي في البلقان الذي راح ضحيته آلاف المسلمين من سكان البوسنة والهرسك.

ليس هذا فقط بل تدخل سياحة الموت أيضا إلى مخلفات الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات وأشهرها مدينة بومبي في إيطاليا التي اندلع فيها بركان فيزوف عام 79 وتوفي الكثير من السكان إثر ذلك، وأيضا الكوارث الطبيعية التي تمت بفعل الإنسان مثل كارثة مدينة هيروشيما ومركز فوكوشيما المركزي في اليابان، ومفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا.

من المؤكد أن الأمر لا يقف عند سياح راغبين في مشاهدة أماكن تعتبر فريدة بسبب خطورتها الشديدة، أو أماكن تذكر بمآسي وويلات عانى فيها الإنسان، بل يتعداه إلى فريق آخر من الباحثين أو الصحفيين أو علماء الاجتماع الذين يرغبون في تلك الرحلات للاطلاع وكتابة التقارير وإجراء الأبحاث التي قد يستفيد منها فريق آخر عند التدريب للعمل على كيفية تخفيف المآسي عند وقوعها!

السعادة في كشف المعاناة

نذكر هنا على سبيل المثال رحلة الصحفي الإيطالي “فابريزيو جاتي” الذي رافق مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين من السنغال أحد منابع الهجرة الأفريقية وانطلق معهم على ظهر شاحنة إلى النيجر متوجهين إلى نقطة قرب الحدود الليبية، يتخذها المهاجرين مركزًا للتجمع قبل ركوب البحر. ويصف “جاتي” مخاطر الرحلة على ظهر الشاحنة القديمة المتهالكة بأنها رحلة الموت في قيظ الصحراء، فالشاحنة عرجاء، وآمال المهاجرين عظيمة، والمناخ المحيط بالجميع هو مناخ البؤس وعذابات الإنسان.

ثم يصف الزحام والاكتظاظ على ظهر الشاحنة بأنه غير إنساني. ويفتقر إلى أي نوع من أنواع الرحمة، فالروائح كريهة، والأوساخ في كل مكان، والأكل شحيح للغاية، ويندر وجود الماء، رغم السفر في الصحراء، لكن سحابة الأمل التي كانت تظللهم، كانت تكمن في الأمنيات الكبيرة بالوصول إلى الجانب الآخر من شاطئ المتوسط.

هذه دلالة على أن السياحة لا تكون فقط في ركوب القطارات الفخمة والطائرات المريحة والتمتع بالفنادق الفخمة وأجوائها الممتعة، بل يمكن فهم أن هناك أشخاصا يجدون سعادتهم في كشف معاناة وويلات الإنسان ويستمتعون بما يشعر به الآخرون من معاناة.. وهذا فعلا واقعي وموجود.

المصدر : الجزيرة مباشر