مآلات الحالة العراقية وإشكالية استدعاء الخارج

نوري المالكي

مع كل يوم يمر، تضيق مساحة الحلول المتاحة للخروج من الأزمة العراقية التي تتنوع أشكالها وتتعدد أوصافها بين (السياسي والقضائي والاقتصادي والطائفي و…)، الأمر الذي يترك أثره على جميع قطاعات المجتمع الباحث عن أمل وسط حالة الفوضى التي لا تشير قراءات المستقبل القريب إلى حالة انفراج متوقعة مع معتقدات شعبية خاطئة تركتها حالات الفشل والتدليس منذ عام 2003 بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وما أفرزه ذلك المتغير من قلب القيم والمفاهيم عبر إنتاج حالة سياسية مشوهة بتكويناتها الفكرية والشخصية، مما جعل المشهد العراقي متعسرا في فرص التصحيح وآليات التغيير.

نعتقد أننا ما زلنا في دائرة وأجواء السنين الثلاث الماضية منذ الحراك الشعبي التشريني لعام 2019، الذي شكل فارقا في التأثير الشعبي على المسار السياسي الذي تمخض عنه إقالة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي حتى الوصول التوافقي إلى مصطفى الكاظمي وإجراء انتخابات مبكرة أفرزت نتائج كان من المفترض أن يُبنى عليها المشهد السياسي المنتظر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021.

الشارع مرة أخرى

لم يجد مؤيدو التيار الصدري مكانهم المؤثر والمقرر داخل البرلمان، في استحقاق كان من الطبيعي أن يكونوا هم قادته، بما أهلتهم إليه انتخابات 2021 الأخيرة التي سجلت إقبالا ضعيفا، لكن بدا مكر خصومهم وقدرتهم على تحريك عوامل التعطيل الأكثر تأثيرا. فقد استطاع تكتل (الإطار التنسيقي) -بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الخاسر في الانتخابات- تعطيل قدرة مقتدى الصدر ونوابه في البرلمان والكتل المتحالفة معهم من (السنة والأكراد) في تشكيل حكومة الأغلبية، وذلك بالاستفادة من التوظيف القضائي لصالح (الإطار التنسيقي) حيث يشار دائما الى علاقة مستمرة لهذا الجهاز مع المالكي، استنادا الى مفهوم استغلال السلطة فترة رئاسته الدموية. ولذلك تم التعطيل القضائي لخيار الأغلبية البسيطة (165) صوتا الكافية لتشكيل حكومة الصدر، وقبلها المحاولات الفاشلة لاستثمار الشارع من قِبل مؤيدي (الإطار التنسيقي) لعدم الاعتراف بالانتخابات ومحاولات الضغط على حلفاء الصدر من الأكراد في إطار إعادة التلويح بقانون النفط والغاز.

لم يجد الصدر ما يعبّر به عن نفسه وثقله الشعبي إلا من خلال تحريك الشارع خارج التزامه بالبرلمان الذي انسحب منه، ليدخله هذه المرة شعبيا بدعوة أنصاره إلى التظاهر والاعتصام داخل البرلمان وخارج أسواره، متهما الحالة السياسية برمتها بالفشل والفساد، ومطالبا بحل البرلمان وإعادة الانتخابات، وقد كان له ما أراد ليصبح مقر البرلمان والمناطق المحيطة به تحت قبضة الصدريين دون أي موقف من السلطة إلا حماية المتظاهرين والمعتصمين، في حالة لا تدعو إلى الشك بأن القوى الأمنية قررت أن تنأى بنفسها عن المواجهة والصدام، فلا يغيب عن الأذهان موقف السلطة من مواجهة متظاهري أكتوبر 2019 التي أدت الى مقتل (740) وجرح وإعاقة ما يقرب من (17) ألفًا، فما زالت ملفات القتلة لم تطوى بعد. بل إن هناك اتهامات للأحزاب والمليشيات الموالية لإيران بأنها ارتكبت تلك الجرائم، وهو ما يدفع المتظاهرين اليوم إلى التمسك بملف البحث وإدانة قتلة المتظاهرين الذين تم تهريبهم والتغطية على جرائمهم.

مشروعية الأفراد على حساب مشروعية الدولة

ينظر العراقيون الى الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات من زوايا مختلفة، ويتردد على ألسن المختلفين تساؤل مفاده: هل من الممكن أن يكون هذا الزخم الشعبي معبّرا حقيقيا عن حالة الأمل في الخلاص من طبيعة النظام السياسي الحاكم برمته، أم هو حالة من إضفاء المشروعية الشخصية لهيمنة وحضور مقتدى الصدر أو غيره سياسيا وشعبيا؟ وهنا يمكن القول إن تغيير الحالة السابقة برمتها الى حالة جديدة يستدعى السؤال بكل صراحة: هل يفهم المتظاهرون المعتصمون ما هي دوائر السوء في الحالة القديمة وكيفية وأسرار إدارتها ومن خطط لها؟ وهل العوامل الداخلية -سياسيا وشعبيا- وحدها كانت المحرك لما مضى منذ عشرين عاما؟ أم إن دوائر الخارج التي جاءت بثقلها لاحتلال العراق كانت وراء كل مآسي العراق ابتداءً من فعل الاحتلال خارج الشرعية الدولية إلى حالة تحطيم العراق وتدمير مؤسساته وفرض وإقرار دستور مشوه أستندت إليه كل النتائج الكارثية في العراق؟ وهو ما يطالب المتظاهرون اليوم بتغييره دون تقدير صعوبة وإشكالية ذلك، لأن من وضع الترتيبات الصعبة لمستقبل العراق لا يهمه كثيرا اليوم معالجة خلل أو إشكال ما في مفصل من مفاصل الحالة العراقية، وهذا ما يدفع الى التصور بأن الصراع داخل العراق صراع مُركّب تكاد دوائره تنشطر بين فترة وأخرى انشطارات متنوعة.

فقد تقلّب الصراع داخل العراق من مقاومة شعبية في بداية الاحتلال ضد محتل غاصب إلى دوائر صراع أخرى إلى اتهامات متبادلة بالإرهاب والدخول في أتون هذه الحرب التي وجدت فيها أمريكا ما يخفف عنها حالة الضغط والإمكانية لتوجيه الصراع إلى دائرة أخرى، وليدخل العراقيون في خنادق مختلفة أورثتهم الحرب الطائفية، وبنهايتها وجدت الأحزاب السياسية الحاكمة الفرصة لاستثمار الاصطفافات على قاعدة حالة الشحن النفسي للعراقيين واللعب على وتر الخلافات التي  جعلت منها قاعدة للتحرك السياسي، وهذا ما كان واضحا من خلال تسريبات المالكي التي جاءت على قاعدة “حوادث التاريخ يفسر بعضها بعضا”. فقد اعترف في تسريباته بأنه استغل السلاح والقوة ضد خصومه السياسيين، متباهيا بإذلال العراقيين من خصومه ومن كانوا يُعدّون من أصدقائه أيضًا، هذا الأمر الذي قصم ظهر آخر احتمال للتعامل بحسن النية بينه وبين الآخرين إن كان قد بقي منه شيء.

وبين هذا وذاك من الفرقاء السياسيين وموقف قواعدهم الشعبية المناصرة لهم ومحاولة تثبيت مشروعيتهم كأشخاص، تغيب مشروعية الدولة التي يُفترض أن تكون هي معيار التمييز بين من يستحق تمثيلها وإدارتها ومن انشق عنها للاستئثار بالمكاسب الشخصية وتغليب الدعم والأجندات الخارجية ومحاولة البعض التهديد باستدعاء الخارج، كما جاء في تسريبات المالكي الذي هدد من خلالها باللجوء الى الدعم العسكري والمخابراتي الإيراني. وربما يؤكد ذلك زيارة قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني للعراق مع بداية التظاهرات، ولقاؤه بقيادات الأحزاب العراقية ذات المرجعية الإيرانية.

مكافئ القوة المتعادل.. إشكالية مضافة

نعتقد أن حالة الترجيح وإعادة قلب موازين القوة بين الأطراف المتصارعة على المشهد العراقي لا تخلو من معامل القوى الخارجية التي تجد مصالحها متوافرة مع حالة التيه العراقي. وهنا يبقى السؤال موجها: هل وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام أولويات ملفات صراعها مع القوتين الكُبريين روسيا والصين على حساب ملفات كثيرة أخرى ومنها ملف العراق؟ وهي التي كانت -وما زالت- اللاعب الأساسي في تقرير مصيره من خلال الهيمنه السياسية والاقتصادية على أجزاء كبيرة من مساحاته، سواء في بغداد أو في تأثيرها المباشر بتوجيه بوصلة الموقف مع الفرقاء السياسيين الأكراد ومساحات المناورة شمالي العراق المنشغل أيضا بالإشكاليات القديمة المتجددة المتمثلة في حالة التزام العراق وتركيا بإدارة ملف مواجهة الإرهاب في منطقة وعرة جغرافيا وسياسيا منذ مئة عام. ولا يخفى بروز هذا الملف الساخن تزامنا مع الحراك والتظاهرات العراقية في قلب بغداد، الأمر الذي يدفع إلى التصور بأن هذا الحراك -أو بصورة أدق هذا العصيان- هو النتيجة الطبيعية لحالة عدم الحسم النهائي لأي من الملفات الشائكة. وكأن هناك من يدير حالة تغيير مكافئ القوة بين أطراف الصراع لإدامة حالة القلق السياسي والإداري، بل وإدامة حالة الصراع نفسها من خلال تمكين أطراف مختلفة من امتلاك آليات السيطرة الحقيقية تارة، والموهومة تارة أخرى، من خلال حشد الولاءات لشخص أو جهة سياسية عراقية في وقت وظرف ما، وتشتيت تلك الولاءات وبعثرتها عندما يتطلب الأمر ذلك، حفاظا على حالة الضرورة المتعمدة والقائمة دائما على (استدعاء الخارج).

المصدر : الجزيرة مباشر