مَـلِك وكتـابة

وقت أن كانت الأغنية المصرية تمثل قوة ناعمة في أوساط الناطقين بالعربية بشكل عام، من المحيط إلى الخليج، صدح أحمد عدوية بـ”السح الدح امبو” في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ليكون ذلك بداية لمرحلة جديدة من هذا النوع من الأغاني تُوِّجت من خلال سعد الصغير قبل عشر سنوات تقريبًا بأغنية “بحبك يا حمار”، ثم بعد ذلك شعبان عبد الرحيم “هبطل السجاير” وكل سلسلة “وهيييه”، إلى أن وصل الأمر إلى كليبات تم تحويل عدد كبير من مطربيها ومطرباتها إلى النيابة ثم المحكمة، وصدرت عليهم أحكام قضائية في أحيان كثيرة بالحبس والسجن والغرامات، وما شابه ذلك.

ولأن “السح الدح امبو” لم تكن ظاهرة فنية يُخشى منها، حيث كانت وقعًا جديدًا على السمع ليس أكثر، فربما لم يتوقف عندها النقد الفني كثيرًا، ولا حتى نقد الشارع الذي اعتبرها أغنية شعبية في المقام الأول، سوف نسمعها في الأفراح والليالي الملاح، لا أكثر من ذلك ولا أقل، خاصة أنها جاءت مع بداية مرحلة الانفتاح الاقتصادي التي طال الانفلات خلالها أوضاعًا كثيرة، حتى كانت مصطلحات أو كلمات (السهرة، والعوّامة، والشاليه، والشلة، والبرتيتة) وكثير غيرها، تشير إلى استخدام واسع للمخدرات، والحشيش بشكل خاص في ذلك الوقت، على إيقاع مثل هذه الأغاني التي أخذت في الانتشار.

كليبات الإغراء

قبل 25 يناير/كانون الثاني 2011 لم يلتفت أحد إلى ذلك الإسفاف الذي حملته أغنية “بحبك يا حمار” وما شابهها، ربما لأن الأوضاع كانت مستقرة أمنيًّا وسياسيًّا إلى حد كبير، وربما أيضا لأنها لم تخرج عن كونها مجرد كلمات غير معتادة، أما بعد ذلك فقد تطور الأمر إلى ما يعرف بكليبات الإغراء إضافة إلى كلمات الإسفاف في آن واحد، التي كان نموذجها الفج “بُص أمك”، وقد حصلت المطربة على حكم بالبراءة في درجة الاستئناف، بعد أن كانت قد أدينت في أول درجة تقاض، وذلك لأنه تم التعامل للوهلة الأولى فيما يبدو مع ما حملته الأغنية من إغراء، أما بعد ذلك فاعتُبر النص مجرد إسفاف شائع.

في كل الأحوال يبدو أن مرحلة الانفتاح -على الرغم مما مثلته من صدمة للمجتمع في ذلك الوقت، حيث المخدرات، والمهربات، والتزوير، والتزييف، والثراء الفاحش، وظهور طبقات اجتماعية غريبة، إلى غير ذلك من تحولات- لم تخرج عن كونها متغيرًا لا يحمل الكثير من الأذى، فقد كان الأمر فيما يتعلق بالأغاني مثلاً لا يخرج عن كونه حالة من السجع، أو حتى الوزن والقافية الجديدة على المستمع “شيل الواد م الأرض.. الواد ها ياخد برد” أو “إن كان عيّان ارقوه.. وإن كان عطشان اسقوه”.

أما الآن ومنذ 2011 فلا أحد استطاع تفسير هذه الحالة التي تظهر في أعقاب النكسات وبعد التحولات وبعد التغيرات عمومًا، مع أنواع من المخدرات لا ترقى أبدًا إلى ما كان شائعًا في السابق، مسببةً الهلوسة تارة وتدمير الجهاز العصبي تارة أخرى، بل وإزهاق الروح في كل الحالات، وهي الأنواع التي أصبح يعتمد عليها المؤلف والملحن والمطرب في آن واحد، ولا عجب إذا قلنا المشاهد أيضا، ذلك أن الكثير من حفلات السواحل والميادين بدا أنها متخمة بكل ما هو سيئ.

بالتأكيد في مثل هذه المراحل لا يتوقف المشهد عند حد الأغنية أو الكليب أو اللحن أو الرقص والإغراء، ذلك أن التأليف هو العامل المشترك بين كل ذلك، ومن ثم الكتابة عموما التي سوف تنحدر هي الأخرى إلى القاع، ليس تفاعلًا مع الحالة فقط، وإنما تحت ضغوط كثيرة، تشير إلى أن المرحلة لا تتحمل أكثر من ذلك، بما يعود بنا إلى روايات زمن الانفتاح أيضا، الجنسية أو العنيفة، أشعار زمن الضياع، مقالات زمن النفاق، كل ذلك وغيره تحت عنوان واحد ومبرر سخيف هو “أكل العيش مُر”.

التعايش مع المرحلة

ما لا يدركه بعض الناس هو أنه في هذه الحالة، لن يكون هناك فرق بين كُتَّاب الرأي، ومبدع “بحبك يا حمار” ولا مؤلف “ها بطل السجاير” ولا حتى سامح الشرقاوي في أغنيته الخادشة للحياء “…..” التي لم يذهب بسببها لا إلى نيابة، ولا إلى قضاء، ولا حتى مصنفات فنية، اعتمادًا على عدم التفتيش في نية الرجل، وغير ذلك من أعمال فنية كثيرة، من أغان وأفلام ومسرحيات وحتى مسلسلات تلفزيونية، بما يجعل من زمن الانفتاح حالة إيجابية على كل المستويات، مقارنةً بالحالة الراهنة، التي انتصر فيها -بالضربة القاضية- حمو بيكا وعمر جابر وحسن شاكوش ومن على شاكلتهم، على هاني شاكر نقيب المهن الموسيقية.

قد يتجه المؤلف أو الكاتب إلى مجاراة الواقع، إن استطاع إلى ذلك سبيلًا، حتى لا يصدأ عقله أو تتيبس يداه، لكن لا يجوز أن يصل أبدًا إلى مرحلة الحمار وما شابه ذلك، يجب أن يعمل على التعايش مع مرحلة “ادي الواد لأبوه”، والتآلف مع حالة “ها بطل السجاير”.

بالتأكيد سوف تنقشع الغُمّة بين لحظة وأخرى، وذلك لأن مثل هذه الحالات العبثية قد تمر بها المجتمعات أو حتى الأفراد على المستوى الشخصي، إلا أنها يجب ألا تستمر على هذا المنوال كثيرًا، لما فيه صالح الحاضر والمستقبل على السواء، ويظل الملك والكتابة وجهين لعملة واحدة، بهدف الصالح العام، حتى وإن تدهورت لغة الكتابة، أو انهارت قيمة العملة لأسباب لا دخل للكتابة فيها.

المصدر : الجزيرة مباشر