القتل.. الجريمة العابرة للظروف والاختلافات بين البشر!

فتاة المنصورة

كنت أظن أن قتل شاب ودفنه في أرضية غرفة بمدينة الرحاب بمصر، ووضع طبقة أسمنتية فوق جسده على أيدي والد وشقيق خطيبته هي الجريمة البشعة، حتى صُدمنا مؤخراً بقيام قاضٍ كبير بقتل زوجته الإعلامية، وإحاطة جسدها بالسلاسل وتشويهها بالحامض، ودفنها في مزرعة يمتلكها أو يستأجرها لهذا الغرض الشنيع.

وتصورت أن ذبح عاطل لرجل مسن، وفصل جسده عن رأسه لن يكون بعدها جريمة فظيعة، حتى كانت الفجيعة بقتل طالب لزميلته بنفس الكلية أمام جامعة المنصورة، حيث طعنها مرات وذبحها بوحشية أمام المارة.

وماذا نقول عمن يقتل أمه أو أبيه، أو يزهق روح شقيقته أو شقيقه، أو الأب الذي يسفك دم ابنه، أو يعتدي على ابنته، أو الابن الذي يُعتقل بوشاية من أمه أو أحد من أهله؟

هذه، وغيرها من الجرائم لها بداية معروفة، عندما قتل قابيل شقيقه هابيل، ولهذا لن يكون لها نهاية، طالما هناك بشر على الأرض، فالقتل الفردي والجماعي بأيد بشرية آثمة، لن يتوقف، أما الموت في كوارث قدرية فهو شأن آخر خارج إرادة البشر.

أنهار الدماء بلا توقف

ومهما تم رفع شعار أن الجريمة لا تفيد، فستظل الجرائم تتكرر، وربما بوتيرة أسرع وأكثر قسوة، فهذه الدائرة الشيطانية تتحرك في مسارها بانتظام، وأنهار الدماء ستظل تجري مُخّلِفّة الحزن والألم والقلق العام.

وأحكام القضاء تتوالى؛ من إعدام، وسجن مؤبد، ومشدد، وهناك قاتل يخرج إما في نعش بعد إعدامه، أو كهلاً بعد ضياع شبابه وراء القضبان، ومع ذلك تعج المحاكم بالقتلة والمجرمين، وغرف الإعدام تستقبل المزيد منهم، ومن يغادرون السجون عجزة، أو في أيام العمر الأخيرة، يدخل مكانهم آخرون، والردع الحاسم كنتيجة للعقاب، يبقى مجرد أمل بعيد عن التحقق الكامل والمطمئن للمجتمع.

ليس هناك مجتمع بشري ملائكي، فالملائكة لا يستوطنون الأرض، إنما الإنسان والشيطان، والإنسان هو شيطان نفسه، وهو الخير والشر معاً، ومتى تغلب أحدهما على الآخر، فإنه يكون في استعداد لإحياء نفس أو قتلها.

هل القتل لا فكاك منه؟.

هذا سؤال فلسفي، وقد تكون الإجابة عليه أنه ليس قدراً محتوماً، وأنه مجرد استثناء، وأنه حماقة من ماتت إنسانيتهم، وتقلصت مساحة الخير في نفوسهم وتكوينهم، وتزايدت شرورهم وسوءات أنفسهم.

ماذا نقول عندما يمارس القتل رجال دين من مختلف الأديان، ومن يؤدون الفرائض ومختلف العبادات والنوافل؟

وماذا نقول في أثرياء، ورجال أعمال، وقضاة، وضباط، وأصحاب مهن راقية، وطلاب علم، عندما يخططون ويستأجرون من يقتل نيابة عنهم، أو يرتكبون أنفسهم الفعلة التي تهتز لها السماء والأرض؟.

القتل مُحير فعلاً، والجريمة ترتبط بالإنسان، ولا نعرف كيف يكون العلاج الناجع؟

وأحياناً اتساءل: لماذا افتتح قابيل دائرة القتل؟ ألم يكن هناك وسيلة أخرى لامتصاص الغضب غير هذا الأذى المُروع الذي كتبه البشر على أنفسهم، أو كُتب عليهم؟.

معروف أن الموت وسيلة فناء الإنسان، فلماذا كان القتل؟ ولماذا لم يكن الموت هو الباب الوحيد للخروج من الحياة الدنيا؟ أو لماذا لم يكن هناك شكل آخر للفناء الرحيم بجانب الموت الطبيعي؟

ملايين القتلى بلا هدف

في الحروب والمعارك يُقتل الناس بالألوف والملايين، وغالباً بلا هدف أو نتيجة، ومن ينتصر اليوم ويرفع الرايات، قد ينهزم غداً وتنتكس نفس الرايات، لكن يسقط في الحالتين كثير من البشر، وقد لا يكونون راغبين في الموت، يفرون منه، هم مُجبرون على البقاء في ساحات الصراعات والمعارك والموت فيها، لا أحد يرحب بالموت أو يريده، رغم أنه الحقيقة المؤكد وقوعها في يوم معلوم عند الله، ولن يفلت منه أحد، والموت نفسه لن يفلت من نفسه، فهو أيضاً سيموت، ليكون بعده خلود بلا موت في الجنة أو الجحيم.

ولا نستطيع أن نربط جريمة القتل بمستوى تعليمي وثقافي ومعرفي معين، ولا برفاهية العيش أو الحرمان، ولا بالثراء أو الفقر، ولا بالعُمر، ولا بأي مستوى أو مقياس بين البشر، فالجريمة لحظة عابرة لكل هذه التصنيفات والمقاييس والظروف والاختلافات بين بني الإنسان، فقط يمكن القول إن نسب الجريمة التي يرتكبها الرجال أكثر من النساء، وهذا مفهوم باعتبار أن الطبيعة الجسدية والنفسية والوجدانية للرجل غيرها عند المرأة.

فهم الجرائم عبر البحث العلمي

أي حديث عن الجريمة يجب أن يستند لدراسات كمية وكيفية، دراسات تحليلية منهجية معمقة عن نوعها وطبيعتها وأسبابها ودوافعها وخلفياتها، الجانب الجنائي الأمني القانوني هو السهل فيها، هذا قاتل وعقابه القصاص أو السجن، أما الجوانب الأخرى المهمة فهي: الاجتماعية والمادية والمعيشية والنفسية والثقافية والفكرية، وكذلك الجوانب المرتبطة بالأعراف والتقاليد والتراث والدين أيضاً في بعض المجتمعات.

وهذا العمل هو دور العلماء والخبراء والمتخصصين، وهو وظيفة الكليات والمعاهد والأقسام العلمية المعنية، وهذا هو التطبيق العملي للدراسات النظرية الصماء، فهم الجريمة، ولماذا تقع، مرهون ليس بالتحقيق والعقاب فقط، إنما بالرصد والتحليل لكل ما هو وراء الجريمة حتى حدوثها، بالغوص في عمق النفس القاتلة، والدخول في أنفاق الظروف والأوضاع، والتجوال في البيئة المحيطة، والبحث في كل ما يتعلق بالإنسان، وفي ثقافته وأفكاره وتراثه، حتى لو لم يكن يفهم أياً من هذه الأبعاد، ولا يتصور أن حياته يجب أن تخضع للتشريح بمبضع علماء متخصصين.

القتل في مصر

مصر دولة كثيفة السكان، نحو 104 ملايين نسمة، وطبيعي أن تقع فيها جرائم بمختلف أنواعها، وهناك جرائم لا ترتبط بأوضاع مستجدة في الحياة والمجتمع، هى جرائم تتخطى كل الأوضاع والعهود، القتل جريمة قديمة، أول جريمة شهدتها الأرض، ولهذا ستظل مستمرة، إنما هناك جرائم ترتبط بظروف جديدة، منها الفقر مثلاً، حيث قد يدفع لمزيد من الفساد والسرقات والنهب والسطو، والاشتباك بين الناس، وتردي الأخلاق، والعنف المجتمعي، وهذا العنف قد يدفع من طرف خفي إلى زيادة نسب القتل أو التخلص من الحياة عبر الانتحار.

والكبت السياسي، والتضييق على الحريات، قد يدفع إلى النزوع لسلوك الخوف والجبن والأنانية والانعزالية، وقد يتحول الناس إلى وشاة لحماية أنفسهم، وهذا منطق الطوفان، هو سلوك إجرامي لا يقل عن القتل.

ومن أسف، أننا لا نجد دراسات فورية متواصلة ومتجددة عن الجريمة وتطورها وكل ما يتعلق بها وبالمجتمع والحياة العامة السياسية والاقتصادية تنير لنا الطريق نحو فهم تفاعلات المجتمع وفورانه وانعكاس أزماته على جرائمه، وإلى أين نحن ذاهبون، وما هى التوصيات الملائمة لإيقاف التحطيم والدمار.

وهنا، فإن حرية البحث العلمي من أسس التقدم في أي بلد، وهذه الحرية قاعدة المجتمع العلمي للقيام بدوره في فك ألغاز الظواهر المختلفة، ومحاولة فهمها، وما لم يقم العلم بدوره فإنه يكون متكاسلاً، ومتخلفاً عن حركة البحث، ومُقصراً في حق المجتمع والناس والقضايا المُؤِرقة، أما إذا كان مُقيداً، فهذه جريمة علمية تمس سلطة الحكم، وتشي بأنها تعرقل وضع الأصبع على آفات المجتمع وعلاجها وإهمال وإهدار قيمة العلم وحرية البحث.

المصدر : الجزيرة مباشر