أحاديث النار والغضب.. لماذا تسكت في بيجين؟!

نانسي بيلوسي

 

تحوّل الإعلام الصيني إلى ساحة حرب ساخنة خلال الأيام الماضية، احتجاجا على توجّه رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، ضمن جولة آسيوية تشمل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة. أعلن المتحدث باسم الخارجية أن الصين “سترد بحزم على تلك الزيارة”، بينما هدد مسؤول حزبي بأن القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي “ستجعل زيارتها عارا على نفسها والولايات المتحدة”.

أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ تصريحا تكرر من قبل، بينما يراه كثيرون “شديد اللهجة”، أثناء حواره -الخامس عن بُعد- مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، استغرق ساعتين و17 دقيقة، قائلا “أولئك الذين يلعبون بالنار سيحترقون بها”. صدّر الصينيون الجملة التي استغرقت بضع دقائق إلى الإعلام المحلي والدولي، لتصبح النقطة المركزية في حوار رزين تناول موضوعات أكثر حيوية، تهم الصين والولايات المتحدة والعالم.

شبح الركود

أتى الحوار بناء على طلب من بايدن، نسقه مستشارا الأمن القومي في البلدين، وتلقفه الرئيس الصيني بالترحيب. فالطرفان يواجهان أزمة مالية تعتصر أكبر اقتصادين، أدت إلى تراجع مشاركة الولايات المتحدة العام الحالي، إلى 23.9% من الناتج العالمي، بينما توقفت الصين -التي تهيأت من قبل لأن تصبح الأولى بحلول عام 2025- عند 18.5%. الدولار الذي يمثل 59% من احتياطي العملات الرئيسية، يقوى على حساب زيادة التضخم، وشبح ركود قاتل، بينما اليوان يمثل 2.8% من احتياطي العملات، متأثرا بتدهور اقتصادي داخلي، وفشل السيطرة على كورونا، والحرب الروسية.

لم تأت زيارة المسؤولة المخضرمة (82 عاما) من فراغ. تريد بيلوسي أن تتخلى عن منصبها العام المقبل. “تكره بيلوسي الأحزاب الشيوعية بمن فيها من القادة والصحفيين”، لذلك تريد أن تسجل علامة تاريخية، بأنها تدفع تايوان إلى التعبير عن نفسها بجرأة، لترفض أن تنضم إلى “الصين الأم” في “دولة واحدة ونظامين”. ادعت الصين تنفيذ الشعار في هونغ كونغ أثناء استلامها من بريطانيا عام 1997، والآن أحالتها إلى مقاطعة يحكمها الحزب الشيوعي بقبضة أمنية استبدادية.

ديمقراطية أم استبداد؟

بيلوسي زعيمة سياسية بالوراثة، فقد جاءت بقوتها إلى مقعد أبيها بمجلس النواب، وتقود حزب بايدن من الخلف، تجاه حشد سياسي حاد مع النظام الصيني. تعتقد هي وأنصارها أنهم حماة الديمقراطية والنظم الداعمة لها، بينما الصين توظف اقتصادها المتنامي “لتساعد روسيا، وتضغط على قادة أفريقيا وأوربا الوسطي وأمريكا اللاتينية، لإزاحة الغرب الديمقراطي، لصالح أنظمة استبدادية موالية لبيجين”.

ترى الصين أن زيارة بيلوسي عدوان على سيادتها، ويجب وقفها، لأنها تخرق التزام واشنطن بمبادرة الرئيس الراحل نيكسون واتفاق 1971، الذي يؤكد وحدة الصين، وأن حكومة الحزب الشيوعي هي الممثل الوحيد للشعب الصيني في البر الرئيسي وجزيرة تايوان.

يقول رئيس الصين “تايوان مهمة لـ1.4 مليار صيني. حماية السيادة الوطنية للصين وسلامة أرضيها، التزام تاريخي للقادة الذين يخلدون دورهم في إدارة الصين”، لذلك يعتبر الرئيس “قعقعة السيوف هي خياره الآن”. تراوغ أمريكا في تنفيذ اتفاق نيكسون، منذ أعلن (شي) أنه سيضم تايوان -24 مليون نسمة- إلى الوطن الأم “ولو بالقوة”، لتبقى تايوان الجرح الغائر في جسد أمة، تنافس واشنطن على قيادة العالم. مع ذلك جاء اللقاء عبر الدائرة المغلقة، عاكسا لالتزام الطرفين بإزالة الخلافات الخطيرة، لتظل المنافسة بينهما “منافسة من دون كارثة”.

حوار التهدئة

جاء الحوار طمأنة من كل طرف للآخر، فتدهور الاقتصاد لا يصب في مصلحتيهما. تحتاج بيجين إلى التهدئة للتعامل مع أكبر شريك تجاري لها، فصادراتها تزايدت لواشنطن 19% عام 2021، بينما تراجعت مع معظم الدول. تخشى أمريكا أن تنزلق الصين إلى صراع عسكري يهددها هي وحلفاءها، ويهوي بشركائها الديمقراطيين بالمنطقة في حروب عرقية، إذا اندلعت فلن تجد من يوقفها.

المصالح العليا جعلت الجيش والمخابرات الأمريكية، يحذّران من عواقب رحلة بيلوسي، لكن بايدن لا يملك دستوريا إيقاف جموح المرأة العجوز، التي تخشى أن توظف الصين تراجعها، في إهانة كبرياء أمريكا، أو تخيف بها الشعوب، خاصة في تايوان، ومن يبحثون عن حريتهم، بعيدا عن سطوة حزب استبدادي ونظام قمعي.

يؤكد خبراء أن الحزب الشيوعي وجيشه لن يقدرا على المساس برئيسة مجلس النواب، المسؤول الثاني بالدولة، فأقصى ما لديهم أن تخرج طائرات حربية، تعرقل خط الطيران إلى الجزيرة، أو اعلان المنطقة المحيطة بها، حقل تجارب صاروخية، للحيلولة دون إتمام الزيارة، فإذا ألغيت لسبب ما، فلن يقلل ذلك من دور بيلوسي في دعمها لحكومة تتمتع بأغلبية شعبية، راغبة في الابتعاد عن بيجين، ولكن الاقتصاد سيزداد تدهورا.

انقلاب هادئ

من ينظر إلى سعي الشيوعيين لتأجيج مشاعر الغضب لدى الشعب، يتأكد أنها لا تعكس مخاوف على دولة وحدتها أمر مفروغ منه، وفقا لقرارات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، قدر فزعهم على (شي). فالرحلة التي أُجّل موعدها منذ الربيع الماضي، تجددت في وقت حاسم، تصادف مع اجتماع قيادات الدولة في منتجع بيداهي “Beidaihe” على الساحل القريب من تايوان، ليناقشوا سبل إنقاذ اقتصاد مأزوم، اعتادوا على توظيفه للسيطرة على المجتمع ومفاصل الدولة، وشراء الدعم السياسي الدولي. فالأهم لديهم أن تُجرى الاجتماعات في أجواء هادئة، حيث يغلقون على أنفسهم الأبواب لعدة أيام، ويسترخون على الشاطئ، لوضع خطط اجتماعات الحزب الشيوعي، المقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، التي ستُحدث انقلابا قانونيا يسمح ببقاء (شي) قائدا للحزب ورئيسا لفترة ثالثة. ويحتفل جيش التحرير الشعبي بالذكرى السنوية لتأسيسه، ومرور 30 عاما على اتفاق “تايبيه” بالدخول طواعية في “الصين الواحدة”.

لم يكن غريبا أن يُصدر قادة الحزب أوامر بتخفيف حدة التصعيد الشعبي مع الولايات المتحدة، وتهدئة الصحف التي تجاوزت المسموح به منذ أيام، حتى لا تنزلق الحرب الكلامية إلى الحد الذي يقلقهم، أو يدفع الجماهير نحو غضب وصدام ساخن مع واشنطن، يخرجهم بلا عودة، عن طوع الرئيس والحزب.

المصدر : الجزيرة مباشر