الاستراتيجية الأمريكية: عقدان من التحولات (3)

كثيرة هي بل ومتعددة تلك الاستراتيجيات التي يتم الاعلان عنها بشكل شبه مستقر، للأمن القومي للدول، سواء ما ارتبط منها بمعيار الزمن (خمسية، عشرية، .. ) أو ما ارتبط منها بقضايا وملفات معينة، لكن قليلا من هذه الاستراتيجيات ما يجد طريقه فعلياً للتطبيق العملي. فالأمر لا يرتبط فقط بوضع الاستراتيجيات على الورق، أو نشرها عبر منصات رسمية، ولكنه يرتبط أيضاً وبدرجة رئيسية بالقدرة على وضع هذه الاستراتيجيات موضع التطبيق، وتوفير ما يتطلبه ذلك من إمكانيات وقدرات، مادية وبشرية وفنية.

ومن بين الدول المحدودة في العالم المعاصر التي نجحت في الجمع بين الفكر والحركة، أو النظرية والتطبيق في وضع الاستراتيجيات، الولايات المتحدة الأمريكية، ولما لا وهي تهيمن على قمة النظام العالمي منذ العام 1991 وحتى الآن.

أمريكا ما بعد سبتمبر وإعادة تحديد مفهوم السيادة للدول والأطراف الدولية

لقد قامت استراتيجية الأمن القومي 2002، على تسعة عناصر أساسية، جاءت على النحو التالي:

الالتزام الأساسى بالحفاظ على عالم أحادى القطب: فقد نصت على أنه ليس للولايات المتحدة أى ند منافس، ولا يمكن السماح لأى ائتلاف قوى لا يشمل الولايات المتحدة أن يهيمن فيه”.

التحليل الجديد للتهديدات الكونية ولكيفية مهاجمتها: فقد أصبح في وسع مجموعات صغيرة من الإرهابيين أن تحصل على أسلحة دمار شامل نووية أو كيمائية أو بيولوجية، ولا يمكن، بحسب الإدارة الأمريكية، استرضاء هذه المجموعات أو ردعها، فلابد من استئصالها.

انتهاء مفهوم الردع: “حيث لم يعد التهديد قادماً من قوى عظمى أخرى يتم التعاطى معها من خلال القدرة على رد الضربة النووية، فليس لهذه المجموعات الإرهابية عنوان محدد ولا يمكن ردع أفرادها، لأنهم إما راغبون في الموت بسبب ما يؤمنون به أو قادرون على الهرب من الضربة الانتقامية، ولهذا فإن الخيار الوحيد الباقى هو الهجوم، ويتعين أن يكون استخدام القوة، وقائياً بل وربما إستباقياً، أى الهجوم على التهديدات المحتملة قبل أن تتحول إلى مشكلة كبيرة”.

إعادة تحديد مفهوم السيادة: “يتعين على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للتدخل في أى مكان وفى أى زمان لتدمير التهديد. فإذا كان الإرهابيون لا يحترمون الحدود، فعلى الولايات المتحدة ألا تحترمها بدورها بل إن البلاد التى تأوى الإرهابيين، سواءً أكان ذلك لأنها توافقهم أو لأنها غير قادرة على تطبيق قوانينها، تتخلى عن حقها في السيادة”.

التقليل من قيمة القواعد الدولية والمعاهدات والشراكات الأمنية: فإذا كانت المخاطر تزداد وهامش الخطأ في الحرب على الإرهاب ينخفض، فإن المعاهدات والقواعد التى تحد وتضبط استخدام القوة، لا قيمة لها. ويعود ذلك إلى إيمان أمريكى بأن على الولايات المتحدة ألا تنغمس في عالم المؤسسات والقواعد المتعددة الأطراف، والعمل في هذا العالم وفق تصوراتها الذاتية.

القيام بدور مباشر وغير مقيد في الرد على التهديدات: فليس هناك بلد أو ائتلاف، يملك القدرة على نشر قواته بما يستجيب للتهديدات الإرهابية وتهديدات الدول المارقة في العالم بأسره، حيث يجد حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم في موقع صعب عندما يضطرون إلى القتال المشترك مع الولايات المتحدة، ويستند البعض إلى أن العمليات العسكرية المشتركة التى يقوم بها الحلفاء تعوق سير العمليات القتالية.

إعطاء وزن أقل للاستقرار الدولى: فانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ لم يؤد إلى سباق تسلح كوني، ولكنه مهد الطريق أمام اتفاق تاريخى لتخفيض التسلح بين الولايات المتحدة وروسيا، وهذه الخطوة تقدم برهاناً على أن تخطى المنظور القديم للعلاقات بين القوى العظمى لن يؤدى إلى هدم النظام الدولي، ففى وسع العالم أن يتأقلم مع الانفرادية الأمريكية.

رفض العمل الجماعى وربط المشاركة الاستثنائية فيه بشرطين رئيسيين: الأول، أن تتم هذه المشاركة تحت قيادة أمريكية، والثانى، أن تحقق للولايات المتحدة أقصى فائدة ممكنة.

التبشير بالقيم الأمريكية ونمط الحياة الأمريكية: فقد اعتمدت الإدارة الأمريكية على عنصر التعبئة الجماهيرية وإثارة المشاعر القومية حول أمن الولايات المتحدة وحماية الأمة والوطن من قوى الشر، وحاولت إيجاد علاقة وثيقة بين مقاومة ما يتهددها بالحرب وتنشيط الاقتصاد الأمريكى الذى سوف ينعكس إيجابًا على المواطنين. وعليه فإن الانتصار العسكرى سيؤمن استمرار الإدارة الحالية التى تشعر بأن التوسع الخارجى يعنى استمرارية التفوق الداخلي.

ثلاثية المبادئ الكبرى من مبدأ بوش إلى الحرب الاستباقية والتدخل الإجباري، وكيف نظرت أمريكا للعالم بعد سبتمبر 2001؟

رغم مركزية مبدأ الحرب الاستباقية بعد أحداث سبتمبر 2001، الذي تم النص عليه في استراتيجية 2002، إلا أن الاستراتيجية أكدت على مبدأين مهمين، بل وشديدي الخطورة، هما مبدأ بوش ومبدأ التدخل الإجباري.

1ـ مبدأ بوش: فقد أعلن بوش أنه على دول العالم أن تختار بين أن تكون مع الولايات المتحدة في معسكر (الخير) أو تكون مع الإرهابيين في معسكر (الشر)، أي ضد الإرهاب وضد الدول التى تدعم النشاط الإرهابى.

ومن خلال تبني “مبدأ بوش”، تقدمت الولايات المتحدة خطوات بعيدة في اتجاه إتمام بنائها الإمبراطوري، عبر العديد من الإجراءات، من بينها:

(أ) التوسع الاستراتيجي: وذلك من خلال التسلل إلى الجوار الروسي المباشر، وانتزاع موافقة روسيا على استمرار وجودها العسكري فيه إلى أجل غير مسمى. وتحقق ذلك في لقاء الرئيس بوش والرئيس بوتين في مايو 2002، حيث أقر بوتين بأن لكل من روسيا والولايات المتحدة مصالح مشتركة في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز تشمل مكافحة الإرهاب وإعادة إعمار المنطقة وتنميتها اقتصاديا. كذلك هددت الولايات المتحدة إيران، وحاصرت نشاطها في آسيا الوسطى، وضغطت عليها في قضية النفط، وفي قضية التسليح أيضا. هذا إلى جانب أنها وضعت القوة النووية الباكستانية تحت المجهر.

(ب) القرارات الأممية: فقد استصدرت الولايات المتحدة سلسلة من القرارات الداعمة لحربها ضد الإرهاب من مجلس الأمن، وكانت هذه القرارات بمثابة إعادة تشكيل لدور الولايات المتحدة في النظام الدولي.

(ج) الانسحاب من المنظمات الدولية: حيث أتمت الولايات المتحدة حلقة انسحابها من الاتفاقيات الدولية، فانسحبت من المحكمة الجنائية الدولية التى كانت هى وإسرائيل وإيران من الدول القليلة التي وقعت على اتفاقيتها في اليوم الأخير لانتهاء مهلة التوقيع. وتجاوزت الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاقية إلى إعداد مشروع قانون يخول الرئيس حق منع الأسلحة والمعونات العسكرية عن الدول المصادقة على المعاهدة.

(د) السياسات الداخلية: فقد أقر مجلس النواب في مايو 2002 أكبر ميزانية دفاعية للولايات المتحدة منذ إدارة الرئيس ريغان، بلغت قيمتها 383 مليار دولار لعام 2003، كما وافق المجلس على زيادات متتالية في ميزانية الدفاع للسنوات الأربع التالية، لتصل 450 مليار دولار عام 2007. ودعمت الدولة جهازها البيروقراطي في سياق تنفيذ إجراءات مكافحة الإرهاب، كما أصدرت قانون المواطنة (Patriot Act) الذي وسع صلاحية السلطات الفيدرالية في أعمال التنصت والتفتيش والاحتجاز من دون اتهام وفحص سجلات الأفراد من دون إذنهم، وتجميد أموالهم، وترحيل المشتبه فيه منهم. واستكمل القانون بسلسلة من القرارات التنفيذية الخاصة بتأجيل تنفيذ أحكام القضاء، والامتناع عن نشر بيانات عن المعتقلين، وإنشاء المحكمة العسكرية.

2ـ مبدأ الحرب الوقائية: أكد الرئيس بوش على أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تقبل بأن يتمكن أعداؤها الجدد من أن يوجّهوا إليها أو إلى حلفائها ضربة مشابهة لتلك التى حصلت في 11 سبتمبر ولا حتى القبول باحتمال تنظيم هجمات ضد السفارات والوحدات البحرية أو الحاميات الأمريكية، فأعلن أن الاستراتيجية الأمريكية ستهدف من الآن فصاعدا إلى منع تجسيد هذه المخاطر من خلال إطلاق “ضربات وقائية”، ضد أعدائها المحتملين. والتخلى عن نظريات “الردع” و”الاحتواء” السابقة، وتبني مفاهيم “التدخل الدفاعي” و”العملية الوقائية” أو “الاستباق”.

3ـ مبدأ التدخلية الإجبارية: ويقوم على الاقتناع بأن العالم الخارجي ما هو إلا فناء خلفي للولايات المتحدة، وكل ما يحدث فيه يخص الولايات المتحدة بشكل أو بآخر، ويحتم هذا المبدأ على الولايات المتحدة التدخل في مختلف القضايا العالمية، وذلك انطلاقا من احتمالات تأثير هذه القضايا على المسيرة العالمية للولايات المتحدة‏.‏ واستناداً لذلك فقد لا تعبأ كثيرا بانتقادات المجتمع الدولي لها، سواء ككتلة واحدة داخل الأمم المتحدة، أو كدول فرادي.‏

ويرتبط هذا المبدأ بشكل نسبى مع ما سارت عليه الإدارة الأمريكية السابقة في عهد بيل كلينتون، بيد أن الدافع في الحالتين مختلف، فهو لدى إدارة كلينتون جاء انطلاقا من الإحساس بالمسئولية الدولية ـ الأخلاقية ـ للولايات المتحدة في المستوى المنخفض لها، وبما يخدم المصلحة الأمريكية العليا فضلا عن اتساقه مع الشرعية الدولية التي تمثل الأمم المتحدة حاضنتها الأساسية، أما في حال إدارة بوش فهدفه الأساسي إعلاء الصوت الأمريكي واعتبار رأى الولايات المتحدة بمثابة مرجع أساسي لحل أي معضلة دولية، وذلك بغض النظر عن موقف الأمم المتحدة‏.‏

وهذا المبدأ فضلا عن كونه يدفع بالولايات المتحدة باتجاه التورط في قضايا تتعدى حدود القومية، فإنه أيضا قد يشكل مأزقا عمليا لها، خاصة إذا لم يقم على حسابات دقيقة، وهو ما قد ينعكس سلبا على المصلحة الأمريكية ذاتها، ويزيد من وطأة هذا المبدأ ـ إن لم يحسن استغلاله ـ أنه يهيئ لمـؤيديه أن التراجع عنه قد يعد فشلا للرؤى الكونية التى بنتها الولايات المتحدة لنفسها. وعليه تصبح التدخلية سلاحا ذا حدين، فإما أنها قد تفضى إلى تمكين الولايات المتحدة من زوايا العالم المتباعدة بما يدعم الصورة الذهنية للولايات المتحدة في الخارج، أو أنها قد تنقلب على معتنقيها لو لم تكن محسوبة العواقب وتكفلها سياسات واستراتيجيات مساندة، حيث قد تفضى إلى عكس المتوقع، كما حدث في حالة فيتنام‏.‏

الاستراتيجيات ليست فقط رؤى وتصورات فكرية، ولكن خطط وسياسات عملية، تنعكس في ممارسات ونتائج تطبيقية

 

في إطار العناصر والمبادئ التي قامت عليها استراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2002، يمكن القول إن إدارة بوش قد نجحت، من خلال الاستراتيجية التي أعلنت عنها، والمبادئ التي تبنتها، والسياسات التي نفذتها، في تحقيق العديد من الأهداف الداخلية والخارجية، من بينها:

1ـ سيطرة الجمهوريين على الكونغرس: فقد فاز الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفى للكونغرس التى جرت في نوفمبر 2002، كاسراً بذلك قاعدة أن الخسارة في الانتخابات النصفية تكون من نصيب حزب الرئيس، وبهذا حقق الرئيس (بوش) ما لم يحققه أى من أسلافه في المدة الرئاسية الأولى منذ (فرانكلين روزفلت)، وقد كان للشعبية التي حظى بها بوش بسبب الحملة ضد “الإرهاب”، دورها في ذلك، فهذه الشعبية ارتبطت بقضية الأمن القومي التي حالت دون هيمنة الاقتصاد أو أى قضية أخرى على الحملة الانتخابية. خاصة وأن هذه القضية أصبحت، خلال هذه المرحلة مقترنة اقتراناً واضحاً بالمخاطر الخارجية التى يحددها الرئيس.

2ـ دعم توجهات الرئيس بوش ضد العراق: فقد أصبح الرئيس بوش، يتمتع بقدرة كبيرة على المناورة للتعامل مع القضايا السياسية ، خاصة بعد سيطرة حزبه على مجلسي التشريع في الولايات المتحدة، وهذا يعنى حكومة موحدة، ويعنى أن المعارضة لن تكون في موقع تستطيع منه مهاجمته في حال فشل سياساته، ولكنها ستختار أن تكون مؤيدة نوعاً ما للرئيس فيما يخص السياسة الخارجية، وخاصة مسألة العراق. يؤكد ذلك أنه بعد ثلاثة أيام فقط من ظهور نتائج الانتخابات النصفية، أصدر مجلس الأمن القرار رقم (1441) حول العراق، والذى يتيح للرئيس بوش مجالاً واسعاً لمهاجمة العراق إذا لم يتأكد خلوه من أسلحة الدمار الشامل.

3ـ دعم قوة اليمين الديني: فقد أدت سياسات بوش إلى تصاعد قوة تيار اليمين الديني، وتيار المحافظين الجدد داخل الإدارة الأمريكية، والمعروف عنهما تأييدهما الشديد لإسرائيل وسياساتها في المنطقة العربية، وانعكس هذا التصاعد على ترتيب أولويات الإدارة الأمريكية، حيث تبنى اليمين الجديد نفس الأطروحة التي قدَّمها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك (آرييل شارون)، والقائمة على أن حل قضية فلسطين يأتي عبر العراق، وأنه لابد من مواجهة العراق أولاً، بما يؤدى لإجبار الفلسطينيين على تقديم تنازلات أكثر لإسرائيل، يكون من شأنها الوصول لتسوية نهائية تحقق أقصى المكاسب التي تسعى إليها الولايات المتحدة وإسرائيل.

 

المصدر : الجزيرة مباشر