الاستراتيجية الأمريكية: عقدان من التحولات (2)

بوش الابن

لا يمكن دراسة التحولات في السياسة الأمريكية ـ داخليًّا وخارجيًّا ـ بانفصال عن طبيعة إدراك هذه الأحداث، وتحديد فاعليها؛ وهل هذه الطبيعة تقتضي تغيرًا عاديًّا في السياسة الخارجية الأمريكية في نطاق العلاقة بين الاستمرارية والتغير اللذين تشهدهما سياسة أي دولة، أم أنها ولَّدت تحولات تؤسس لتغير في الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة وللعالم برمّته، أو تكشف عن تحول جرت صياغته تدريجيًّا، وعايش العالم، بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، مؤشراته وتجلياته.

وبعيدًا عن اتجاه البعض للتمييز بين إمكانية وجود تغيرات جوهرية بين الديمقراطيين والجمهوريين في التعامل مع الحدث؛ فإن الشيء المتفق عليه والمتوقع أن التيارين كانا سيختلفان فقط حول سبل إدارة الاستراتيجية العالمية الحديثة وأدواتها، وليس حول جوهرها ومنطقها، فالسياسة الأمريكية العالمية دخلت تحولاً سواء كان يديرها ديمقراطيون أو جمهوريون. فالمرحلة التي يعيشها العالم خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، وتشهدها الاستراتيجية الأمريكية العالمية هي مرحلة الأحادية والهيمنة الأمريكية.

والمؤشرات على ذلك عديدة، منها الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب كأولوية للسياسة الخارجية التي يطلق عليها “مبدأ بوش”، وتوسيع هذه الحرب، وإعادة فك الارتباط بالعالم، وتوثيق العلاقة بالحلفاء في إطار المصلحة الأمريكية أساسًا، وتُمثل هذه المؤشرات عناصر التحول في السياسة الأمريكية أيًّا كان الحزب الحاكم في الولايات المتحدة.

إن الخطورة في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية تبرز في التداخل بين أبعاد القوة العسكرية وأبعاد المنظومة القيمية، حيث لم تعد الأخيرة قاصرة على الأيدولوجيا فقط، كما حدث خلال الحرب الباردة، ولكن أضحت تشمل الأبعاد الثقافية الحضارية، وأخذت الولايات المتحدة تستحضر الأساليب اللازمة لحمايتها، فردية كانت أم جماعية، عسكرية كانت أم ثقافية.

إن أحداث سبتمبر 2001 تمثل بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية، سِمْتُهاَ الأساسية تقلُّصُ قوة وهيمنة النموذج الغربي في عالم تزايدت بؤر التوتر فيه، وظهرت تحديات أمنية لا تتوفر للقوة العظمى وسائل فعالة لاحتوائها، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية فإن هذه الأحداث لم تكن نقمة على السياسات الغربية، ولكن تم التعامل معها كفرصة طال توقعها للقطب الدولي المهيمن للقضاء على البقية الباقية من المحتجين والمعترضين على التفرد الأمريكي.

ومن ناحية ثالثة فإنه في إطار هذه التحولات كان المتغير الأهم، هو تحول الإسلام من أحد معايير ومفاتيح الخريطة الاستراتيجية العالمية إلى محور هذه الخريطة، بعد أن وصل أثره إلى قلب المنظومة الدولية سياسياً واقتصادياً. ومع هذا التحول أصبح احتواء الإسلام، هدفاً محورياً في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وخاصة مع حضور العامل الثقافي بقوة في هذه الاستراتيجية، ممثلاً في ضرورة تصدير النموذج الحضاري الغربي ونمط الحياة الأمريكية كشرط لحماية مصالح الولايات المتحدة في العالم.

استراتيجية الأمن القومي الأمريكية بعد أحداث سبتمبر والسعي نحو المركزية الأمريكية وترسيخ السيطرة العالمية

بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام 2000، طلب الرئيس جورج دبليو بوش من وزير دفاعه، دونالد رمسفلد، أن “يتحدى الوضع القائم داخل البنتاغون” وأن يضع استراتيجية أمريكية جديدة للقرن الحادي والعشرين، تقوم على ثلاثة ركائز أساسية هي:

1ـ المركزية الأمريكية: أي استخدام القوات العسكرية لما فيه أقصى مراعاة للمصالح الوطنية، بما في ذلك أثناء العمليات المشتركة مع الحلفاء، وإذا كانت العقيدة العسكرية الأمريكية قد سعت إلى جعل استخدام القوات المسلحة في الخارج متوافقا مع مصالح الولايات المتحدة الأمنية الأساسية. فإن الأهداف الاستراتيجية كانت أيضا تدّعى درجة أعلى من النبل. فكانت تركز على الدفاع عن الديموقراطية والحفاظ على السلام. وإذا لم يصبح مصير هذه الأهداف الزوال في عهد جورج د. بوش، فإنها باتت مرهونة بدقة للدفاع عن المصالح الوطنية. وبما أن مسئولي إدارة بوش لا يعتبرون أن عليهم مواجهة خطر شمولي، فإنهم لا يجدون سببا اضطراريا لإخضاع المصلحة الوطنية لأي مشروع من مشاريع الدفاع المشترك.

2ـ السيطرة العالمية أو القدرة على إيصال قواتها إلى أي مكان وفى أي زمان: فالعسكريون الأمريكيون كانوا ينظرون إلى الحرب الباردة على أنها نزاع شامل يتطلب توفير الوسائل الضرورية لمجابهة القوى المعادية في أرجاء الكرة الأرضية كافة. وكانت القارة الأوربية هي المعدّة لكي تكون مسرحا لمثل هذه العمليات. وقد اعتمد لهذه القوات في أوربا هيكلية تسمح لها بخوض حرب برّية واسعة النطاق في سهول وسط أوربا. ولكن مع نهاية الحرب الباردة لم تعد الولايات المتحدة تعتبر نفسها معنية بحرب واسعة وطويلة المدى في أوربا أو في غيرها. وباتت تعتقد أن عليها خوض مواجهات قصيرة حاسمة في أماكن متفرقة من العالم. وبما أنه يستحيل إيجاد قواعد للجنود والأسلحة في كافة الأنحاء، فالمطلوب تطوير وسائل للتدخل والنقل السريع انطلاقا من القواعد في الولايات المتحدة نفسها.

3ـ التفوق الدائم: أي اللجوء إلى العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية تأمينا للتفوق الدائم للقوات المسلحة الأمريكية، فالولايات المتحدة تمتلك اليوم تفوقا ساحقا لا يمكن لأي دولة أخرى أن تنافسه في العقود المقبلة. لكن لدى الإدارة الأمريكية رؤية تمتد إلى زمن أطول وهي تسعى إلى جعل الولايات المتحدة القوة العسكرية المسيطرة إلى أجل غير مسمّى.

وفى سبيل المحافظة على موقع السيطرة هذا، تجب الاستفادة من الطاقات العلمية والتقنية المتوافرة في الولايات المتحدة من أجل أن تتقدم الأسلحة الدفاعية والهجومية بمعدل جيل كامل على أى عدو محتمل. وذلك بإعادة تحديد مفهوم الحرب بالارتكاز على التقنيات المتقدمة، وإطلاق مفهوم الحرب الوقائية أو الهجمات الاستباقية.

ومع أن العناصر الأساسية لهذه الرؤية استمرت بعد ذلك، إلا أن عناصر جديدة دخلت عليها في المراحل التالية، كانت بدايتها خطاب الرئيس بوش عن حالة الاتحاد (في 29 يناير 2002)، والذي تضمن عناصر جديدة أهمها إضفاء طابع أيديولوجي على الحرب ضد الإرهاب، واعتبار العمل من أجل إصلاح سياسي في البلاد العربية والإسلامية إحدى المهام التي سوف تضطلع بها الولايات المتحدة في إطار الحرب ضد الإرهاب.

الإمبراطورية والبحث عن عدو جديد يضمن استمرار وقود الدفع نحو الهيمنة

ثم قدّم الرئيس الأمريكي جورج د. بوش، في الأول من يونيو 2002، أمام أكاديمية (West Point) العسكرية، العقيدة الاستراتيجية لإدارته. والتي تتضمن إعادة نظر صريحة في المبادئ التي كانت تعمل بموجبها الولايات المتحدة، مع ما يترتب على ذلك من نتائج كبيرة في قيادة السياسة الخارجية وتنظيم القوات المسلحة وقيادتها، وعقيدة استخدام القوى فيها. وفي تقديمه لاستراتيجية الأمن القومي، سبتمبر 2002، أعلن بوش أن المخاطر التي على الولايات المتحدة مواجهتها تأتى من مجموعات إرهابية دولية ومن دول تتساهل معها وتؤويها أو تدعمها، وأيضا من هؤلاء الذين يملكون أسلحة الدمار الشامل أو الذين ينتجونها أو يستعدون لإنتاجها.

وبما أن هذه المخاطر قد تغيرت في مصدرها وطبيعتها فإن على الرد أن يتغير أيضا في صورة كاملة. وأكد على أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تقبل إطلاقا بأن يتمكن أعداؤها الجدد من أن يوجّهوا إليها أو إلى حلفائها ضربة مشابهة لتلك التي حصلت في 11 سبتمبر، ولا حتى القبول باحتمال تنظيم هجمات ضد السفارات والوحدات البحرية أو الحاميات الأمريكية”، معلناً أن استراتيجية واشنطن ستهدف من الآن فصاعدا إلى منع تجسيد هذه المخاطر من خلال إطلاق “ضربات وقائية” ضد أعدائها المحتملين.

استراتيجية الأمن القومي (2002) وموقع القيم الأمريكية وبناء المكانة والنفوذ:

أكدت الاستراتيجية على عدة أمور، تُمثل الضوابط الحاكمة للسياسة الأمريكية في مرحلة ما بعد سبتمبر، منها، وفق نصها الرسمي المعلن:

1ـ التأكيد على القيم الأمريكية: نصت الاستراتيجية على أن الصراعات الكبرى للقرن العشرين بين الحرية والدكتاتورية، انتهت بانتصار حاسم لقوى الحرية، وقيام نموذج واحد للنجاح القومي قابل للاستدامة يقوم على ثلاثية: الحرية، والديمقراطية، والأعمال الحرة. وأنه في القرن الحادي والعشرين، لن تتمكن إلاّ الدول التى تشارك في الالتزام بحماية حقوق الإنسان الأساسية، وضمان الحرية السياسية والاقتصادية من إطلاق قدرات شعوبها وتأمين رخائها في المستقبل، حيث يتوق الناس في كل مكان إلى حرية الكلام والتعبير؛ واختيار من سيحكمهم؛ وتحديد حقهم في حرية العبادة؛ وتعليم أولادهم؛ وتأمين الملكية الخاصة؛ والاستفادة من جهدهم، فهذه القيم صحيحة، وصادقة بالنسبة لكل إنسان، ويمثل واجب الدفاع عن هذه القيم ضد أعدائها هدفاً مشتركاً للشعوب المحبة للحرية عبر العالم وعبر العصور”.

2ـ التأكيد على المكانة الأمريكية: نصت الاستراتيجية على أن “الولايات المتحدة تتمتع بامتلاك قوة عسكرية لا نظير لها وبنفوذ اقتصادي وسياسي عظيمين. وانسجاماً مع ما يمليه علينا تراثنا ومبادئنا، لا نستخدم قوتنا للضغط باتجاه تأمين أفضلية أحادية. نسعى بدلاً من ذلك إلى خلق توازن قوى يساند الحرية الإنسانية.. ففي عالم آمن، يستطيع الناس جعل حياتهم أفضل.. سوف ندافع عن السلام من خلال محاربة الإرهابيين والطغاة، ومن خلال إقامة علاقات جيدة بين الدول الكبرى، وتشجيع المجتمعات الحرة والمنفتحة في كل قارة”.

3ـ التأكيد على عدد من الأهداف: نصت الاستراتيجية على أن “الولايات المتحدة سوف تستغل هذه الفرصة لنشر فوائد الحرية عبر العالم. سوف نعمل بنشاط لإدخال الأمل بمبادئ الديمقراطية، والتطور الاقتصادي، والأسواق الحرة، والتجارة الحرة إلى كل ركن من أركان العالم”.

4ـ التأكيد على عدد من الوسائل لتحقيق هذه الأهداف، منها: “مناصرة الطموحات إلى الكرامة الإنسانية، وتقوية التحالفات لدحر الإرهاب العالمي والعمل لمنع الاعتداءات علينا وعلى أصدقائنا، والعمل مع الآخرين لنزع فتيل النزاعات الإقليمية، ومنع أعدائنا من تهديدنا، وتهديد حلفائنا وأصدقائنا، بأسلحة الدمار الشامل، وإطلاق حقبة جديدة من النمو الاقتصادي العالمي عبر الأسواق الحرة والتجارة الحرة، وتوسيع دائرة التطور الاقتصادي من خلال انفتاح المجتمعات وإنشاء البنى التحتية للديمقراطية، وتطوير برامج عمل للتعاون مع المراكز الرئيسية الأخرى للقوى العالمية، وتحويل مؤسسات الأمن القومي الأمريكي لمواجهة التحديات والفرص المتاحة في القرن الحادي والعشرين”.

وفي تحليله لهذه المنطلقات يقول “إيمانويل تود”، إن التصريحات الأمريكية عن “إمبراطورية الشر” أو “محور الشر”، أو أي مظاهر شيطانية أخرى، ينبغي أن تُؤخذ على محمل الجد، بعد فك رموزها، فهي تعبر موضوعياً عن الوسواس الأمريكي بالشر، الذي يبدد به الخارج، لكنه يأتي في الواقع من داخل الولايات المتحدة، فخطر الشر ماثل في كل مكان، ومن المؤكد أن الله لا يبارك أمريكا في أيامنا هذه، ليس فقط لأنها تُندد بالشر في كل مكان، وإنما لأنها تتحول إلى الشر.

كما يرى هوبسبوم، إن الرؤية المتعالية من جانب الولايات المتحدة لنفسها، كما صاغتها استراتيجية الأمن القومي، شارك في بنائها، العديد من الأطراف، كالدول التي لا تملك القدرة على مواجهتها وتفضل التحالف معها. وأولئك الذين يستهجنون الأيديولوجيا التي تعمل بها الإدارة الأمريكية، لكنهم يدعمون المشروع الأمريكي بذريعة أنه سيؤدي في النهاية إلى القضاء على بعض المظالم المحلية والإقليمية، والذين يدعمون التدخل الأمريكي معتبرين أنه من الضروري اللجوء إلى القوة من أجل تسوية مآسي العالم، ولكن إذا كانت بعض الحكومات هي من الخطورة بما يجعل في القضاء عليها منفعة للعالم أجمع، فإن هذا لا يُمكن أن يبرر الخطر الذي تمثله على مجمل العالم، قوة عالمية لا تهتم لعالم لا تفهمه ويسهل عليها التدخل عسكرياً ضد أي طرف لا يعجبها”.

ويضيف: “من المستحيل التنبؤ كم من الوقت سيدوم التفوق الأمريكي، لكن الأمر الوحيد المؤكد أنه ظاهرة مؤقتة في التاريخ كما كانت جميع الإمبراطوريات، وهنا يصبح الهدف الرئيس في الوقت الحالي، ليس استيعاب الولايات المتحدة، إنما تهذيبها أو إعادة تهذيبها، حتى تعرف حدودها”.

المصدر : الجزيرة مباشر