عوامل النهوض المستحيل.. تسريبات وتخوين وأشياء أخرى

أنصار مقتدى الصدر يرفعون صوره

من داخل الغرف المغلقة إلى الأثير وبتوقيت محسوب تبدأ سلسلة تسريبات يتحدى ناشرها الصحفي العراقي المقيم في أمريكا (علي فاضل) أيّ إنكار لصحتها ويهدد بالمزيد منها في القادم من الأيام. ابتدأ الصحفي رحلة النشر بالسيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق الأسبق 2006 – 2014  الطامح إلى العودة بعد الفراغ الذي تركه التيار الصدري باستقالة قائمته ذات الأغلبية في البرلمان قبل تشكيل الحكومة.

تسريبات يتوعد بها المالكي، مقتدى الصدر ويصفه بأنه جبان وعميل وفاسد، ويتعهد بأنه سيهاجمه عسكريا في النجف كما هاجمه أيام ولايته السابقة.

المالكي الذي أنكر هذه التسريبات المحالة اليوم إلى مجلس القضاء الأعلى للتحقق من صحتها، كان قد هاجم فيها أيضا بألفاظ طائفية كل خصومه السياسيين من السنّة والأكراد. وذهب بعيدا ليشرح تفصيليا آلية ارتباط فصائل من الحشد الشعبي بالحرس الثوري الإيراني وكيف كان هو عرابا لهذا الأمر، مشيرا إلى أن شريكه في “الإطار التنسيقي” السيد هادي العامري بفصائله المسلحة هو الأكثر ارتباطا وموثوقية بالحرس الثوري الإيراني. وكلاهما ينتظر منه تحت سقف الإطار تشكيل الحكومة العراقية في الأيام المقبلة، في اختبار يرى المراقبون أن فرص النجاح فيه قليلة.

مرحلة سفك الدماء القادمة كما يصفها المالكي في تسريباته -التي ينكرها- تحتاج إلى مزيد من التسلح خارج منظومتي الجيش والشرطة، ويقول إنه أخبر بذلك رئيس الوزراء الحالي في مقابلة ليست ببعيدة.

مقتدى الصدر الذي أكد صحة التسريبات، طالب المالكي بترك العمل السياسي بعد أن قفز المالكي من لغة السياسة المشبعة عادة بالطائفية إلى لغة العشائر، حيث ورد في تسريباته أن عشيرته تعّد العدة وتجهز قوتها للوقوف خلفه إذا تطلب الأمر. ولا حديث عن دولة القانون التي يتزعمها.

أتباع الصدر ومؤيدوه وصلاة الجمعة

في جمعة ما قبل تسريبات المالكي، خرجت الدعوة إلى صلاة جمعة مشتركة من قبل السيد مقتدى الصدر وكانت في إطار إثبات جماهيرية مقتدى وقدرته على الحشد المليوني، ليظهر وكأنه غير سائل عن أي معادل عشائري أو حزبي بعد أن تدحرج منطق القضية العراقية والتعاطي السياسي إلى مستوى لغة الشارع العراقي (قضية عشاير) كما ورد في التسريبات.

كان من المتوقع لتجمع مليوني كجماهير “الجمعة المشتركة” الأسبوع الماضي أن يكون له إطار يمثل معارضة سياسية شعبية قادرة على امتلاك زمام الأمور ومفاتيح القدرة على التغيير الحقيقي لو كانت هناك رؤية أو برنامج سياسي واضح يستند إلى قاعدة من الوعي بمخاطر المرحلة التي يمر بها العراق. ولكن لم يحصل ما كان الكثير من المراقبين ينتظره؛ ليبقى هذا التجمع يدور في فلك الرؤية المتمثلة في الاستجابة فقط لنداء السيد الصدر بالتجمع لذاته وليس لقضية أبعد، كما كان متوقعا أن يكون في إطار استراتيجية تحمل منطلق التغيير الفعلي وربما كان قادرا على ذلك.

وقد أعطى هذا الأمر انطباعا واضحا بأن الوعي الشعبي في التغيير ما زال في مهده، وأنه لا يزال هناك الكثير لتجاوز الانسياق العاطفي الذي هو سمة الشعوب البسيطة؛ ليبدو حال المعادل الجماهيري الذي يعوّل عليه فعل التغيير وكأن تعاقب سني التضليل والتهميش يطابق رؤية (غوستاف لوبون) بأن “الجماهير لا تبحث أبدا عن الحقائق إنّما عن الأوهام فقط، إذ يتم إقناع هذه الجماهير والسيطرة عليها من خلال الوعود المضخمة أو العبارات الحساسة التي تنسلّ إلى لا وعي تلك الجماهير بحكم العرق الذي تنتمي إليه”.

وهذه الرؤية ربما تنطبق كثيرا اليوم على جمهور باحث عن زعيم يملي عليه ما يفعل، وإن كان بعض المتابعين ربما يرى عكس ذلك مستندا إلى الإرادة الشعبية العراقية التي شكلت فعل المقاومة ضد الاحتلال مباشرة، وأعقبتها الاحتجاجات والمظاهرات الجماهيرية التي كانت معادلا شعبيا ترك فعله في تغيير رئيس الحكومة عام 2019 .

وضمن مشهد ما وصلت إليه الحالة، يذهب بعضهم إلى القول بأن العراق بحاجة إلى تغيير في فكرة إدارة هذه الدولة بتغيير النظام الحاكم وفق آليات سياسية مختلفة وبعيدة عما أفرزته الحالة السياسية العراقية المزرية من حيث وجوهها وأحزابها. وهي حالة تعطي إشارات لا لبس فيها بأننا أمام قول ابن خلدون مبيّنًا أن من عوامل سقوط الدول “استحواذ مجموعة من المرتزقة والفاسدين على الحاكم حتى يكونوا سمعه وبصره فيزينوا له القبيح ويقبحوا له الحسن”. هذا في الدول التي يوجد فيها حاكم ولو كان مستبدا! فكيف بالعراق اليوم وهو ضمن وصف قائلهم: “قومي رؤوس كلهم.. أرأيت مزرعة البصل”؟

وأشياء أخرى..

يبدو حديث الدم والموت يحيط بالعراقيين خارج دائرة وصف المكان واتجاهاته الأربعة. والأمر لا يتعلق بطائفة دون غيرها ولا دين دون آخر. حتى في الموت يبقى مصطلح المجهول في العراق هو الحقيقة. والحقيقة أن كل شيء يبدو مجهولا إلا الشهداء فهم عراقيون دما ولحما. فما زال المشهد مضطربا واتهامات الحكومة العراقية تتجه بلغة اليقين إلى الجارة تركيا التي نفت رسميا قيامها بقصف منتجع دهوك الحدودي الذي راح ضحيته تسعة شهداء وأكثر من عشرين جريحا من المدنيين.

حادث جاء في توقيت وظروف تشبه ظروف العراق الذي ما أنصفه العالم منذ أن تعاون على احتلاله وهدم دولته. هناك في ذلك المكان -شمالي العراق- الذي تتوزع فيه إشكاليات الجغرافيا والتاريخ والسياسة في زاوية من العراق الكل فيها متهم، إدارة تحت مسمى الحكم الذاتي الذي يحاكي حالة الاستقلال المقنّع، ووجود لأمريكا بواقع حالة الوجود والهيمنة التي تفوق أهمية أن يكون الجندي الأمريكي موجودا ببزته العسكرية أو دبابته المقلقة ما دامت الاتفاقيات الأمنية هي العنصر الفاعل والحاكم في الإدارة الاستراتيجية للإقليم.

حادث مأساوي يشعر العراقيون بأن دماءهم استرخصت وضاعت هناك. في منطقة تشكل ميدانا خطرا لملاحقة منظمة PKK المصنفة إرهابية. وقد وقّعت حكومة العراق مع الحكومة التركية اتفاقية تسمح لتركيا بملاحقة مقاتلي هذه المنظمة الإرهابية التي يوجد عناصرها في شمالي العراق، ضمن إطار وحدود الاتفاقية. وهذا بحد ذاته ينطوي على الكثير من المخاطر إذا لم يتم ضبط إيقاع تنفيذ هذه الاتفاقية وتنفيذ العمليات العسكرية من الناحية الفنية بين الطرفين. والخطر الآخر يكمن في استغلال جهات معادية أخرى لثغرات الاتفاق لتنفيذ أعمال إرهابية في هذا المكان للإيقاع والإطاحة بالعلاقات التاريخية المتنوعة بين العراق وتركيا. وهذا ما أشارت إليه تركيا في بيان نفيها الرسمي تنفيذ هذه الضربة أو هذا الهجوم، موجهة الاتهام إلى منظمة الـPKK الإرهابية بارتكاب هذا الفعل الإجرامي.

وهناك آراء أخرى تأخذ مساحتها من التشكيك في أن أحزابا سياسية مليشياوية تابعة لإيران ربما تكون قد قامت بارتكاب هذا الفعل الإجرامي لتشتيت الرأي وفك الطوق عن فضيحة التسريبات التي قد تودي بالمستقبل السياسي لشخصيات وأحزاب حاكمة في ظل مرحلة ما بعد احتلال العراق عام 2003، خصوصا أن من أخطر ما جاء في تسريبات المالكي وعوده بأن المرحلة القادمة هي مرحلة الدماء.

الفعل الجماهيري بدا واضحا تحركه لمحاصرة السفارة التركية وبعض قنصلياتها احتجاجا على حادث قصف المنتجع العراقي الذي يبدو أن وسائل الإثبات القانوني بشأن مرتكبه ستأخذ زمنا ممتدا. وقد يتعذر الوصول إلى حقيقة مرتكب هذا الفعل بسبب إشكالية تداخل الأجندات إقليميا وعالميا. والأخطر منها جميعا امتلاك أسرار تحريك الشارع العراقي عاطفيا باستخدام أدوات التضليل والاستقطاب بكل أنواعه، إضافة إلى تعويم مصطلح ومفهوم الإرهاب وتطويع محاربته لصالح الأجندات الأقوى عالميا. الأمر الذي سيكون مفتاحا لتطورات سلبية مقبلة ذات مساحات واسعة لتبادل الاتهامات داخليا وإقليميا وعالميا.

المصدر : الجزيرة مباشر