البحث عن طفل في مدن العجائز

 

(1)  الهند في الطريق

تخيل مجتمع، الأطفال فيه نادرون، يسير أغلب أفراده نحو الشيخوخة دون إحلال؟ لا تسمع فيه صياح جموع الأطفال ولا تشاهد فيه شجار الصبية أو صراع الشباب، فقط تراقب حكمة الكهول وشكوى العجائز!! مجتمع مرفه، به كل الخدمات، غاية في النظافة والجمال، ولكنه يبدو كدار مقامة في أجمل بقاع سويسرا لرعاية المسنين الأثرياء.

تخيل أن يصبح الأطفال يوما السلعة الأعلى ثمنا والأكثر طلبا مع تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب في الدول المتقدمة إلى نسب خطيرة، هل يمكن أن يحدث ما تنبأت به الكاتبة الكندية الشهيرة مارغريت آتوود في روايتها الديستوبية “قصة الخادمة”.

تدافعت تلك الأفكار إلى رأسي وأنا أطالع دراسة تشير إلى أن الصين، وهي أكبر دولة في العالم من حيث تعداد السكان حتى الآن، توشك أن تفقد هذا التصنيف لصالح الهند، فتعداد سكانها آخذ في التراجع هذا العام، حيث انخفض معدل الخصوبة بها من 2.6 في أواخر ثمانينيات القرن الماضي إلى 1.15 فقط العام الماضي. ورغم تخلي بيجين، منذ عام 2016، عن سياسة الطفل الواحد، إلا أن الصينيات ما زلن مترددات في إنجاب أكثر من طفل رغم الحوافز التي تقدمها الدولة لإنجاب المزيد. ربما بسبب الاعتياد على الأسر الصغيرة وارتفاع تكاليف المعيشة، أو تراجع الرغبة في الإنجاب تخففا من تحمل المسؤوليات وتفضيل المتعة بدون أعباء.

(2) تراجع المواليد يؤثر على الصين

معظم الدول النامية التي بها معدلات إنجاب مرتفعة، تعتبر الأمر معوقا للتطور وتحسين الحياة، وتحرص حكومتها على تنفيذ سياسات وحوافز لتحديد النسل حتى لا يلتهم النمو الاقتصادي، والصين كانت أكثر دول العالم نجاحا في تطبيق هذه السياسات بحزم وشدة، وهناك دول مثل مصر، حكامها، منذ ثورة يوليو عام 1952، يشكون من زيادة النسل لأنه يعيق التنمية والسؤال: هل فعلا تحديد النسل مفيد للدول اقتصاديا على المدى الطويل أم إن هناك طرح آخر يجب التباحث حوله على مستوى العالم؟

فريق من أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية توقع تراجع تعداد سكان الصين إلى 587 مليونا في عام 2100، أي أقل من نصف التعداد الحالي. وتوقع أن يكون لهذا التراجع تأثيره السلبى على الاقتصاد الصيني، حاليا يوجد 100 شخص في سن العمل يعولون 20 شخصا مسنا، لكن بحلول عام 2100، سيتعين على كل 100 صيني في سن العمل إعالة ما يصل إلى 120 صينيا مسنا، وسيمهد ذلك لنمو اقتصادي أقل بكثير مما هو عليه الحال في الصين، ما لم تحدث طفرة إنتاجية باستخدام الأتمتة، كما سيتعين على الصين توجيه المزيد من مواردها لتوفير الخدمات الصحية والطبية لرعاية المسنين الذين ستزداد نسبتهم بالنسبة لعدد السكان، وهو نفس الوضع  الذى تتعرض له الآن العديد من الدول المتقدمة وفى مقدمتها اليابان وعدد من الدول الأوربية، فلا يمكن التخلي عن كبار السن والمزايا التي حصلوا عليها في مجتمعات الوفرة، لكن عجلة الإنتاج تحتاج للشباب، وهنا تطل المشكلة برأسها، عند التفكير في استخدام عمالة من خارج البلاد وما يتبع ذلك من مشاكل داخلية بسبب عدم التكيف أو اختلاف الثقافات والعادات والدين، كما حدث في عدد من البلدان الأوربية التي فتحت أبوابها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أمام العمالة القادمة من أفريقيا.

(3) اقتصاد رعاة البقر آفة الدول المتقدمة

كوكبنا لا يسير نحو انفجار سكاني كما يروج البعض، فالنمو السكاني العالمي وصل لأبطأ معدل له منذ سبعة عقود، لكن سكان العالم يتزايدون بشكل غير متساو. نصف النمو السكاني الذي سيشهده العالم في الثلاثين عاماً المقبلة سيكون في 8 دول: جمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر وإثيوبيا والهند ونيجيريا وباكستان والفلبين وتنزانيا، فى حين تشهد بعض الاقتصادات الأكثر تقدماً في العالم انخفاضاً في عدد السكان.

نستمع لساسة وخبراء يتحدثون بقلق عن ما تمثله الزيادة السكانية من عبء على موارد كوكبنا المحدودة، لكن العالم التشيكى فكلاف سميل صاحب كتاب: “النمو: من الكائنات الحية الدقيقة إلى المدن الكبرى”، ينقض هذه الفكرة ويعلن أن الحل ليس في خفض معدلات النمو السكاني ولكن معدلات استهلاك الطاقة والموارد إلى النصف في الدول المتقدمة الغنية، وهو يطالب بضرورة التوقف عن النمو في الدول التي تحقق نموا كافيا لخلق استقرار من حيث الوفيات والتغذية والتعليم، بدلاً من الدفع حتى يصبح النمو سرطانيًا ومدمّرًا بيئيًا. ويستشهد بتعريف المفكر وعالم الاقتصاد الأمريكي الراحل كينيث بولدينج عن “اقتصاد رعاة البقر” و”اقتصاد رائد فضاء”، الأول هو إتاحة فرص لا نهاية لها لاستهلاك الموارد، والثاني هو اعتراف بأن كوكب الأرض يشبه إلى حد كبير سفينة فضائية مغلقة نحتاج إلى إدارة مواردنا فيها بعناية ورشاد.

(4) الزيادة السكانية ليست سببا للفقر

التحدي الحقيقي الذي يواجه تطور ونمو واستقرار عالمنا، كما أعتقد، ليس الزيادة السكانية ولن يكون، لكن التحدي في تغيير أسلوب التفكير، من تفكير فردى أناني إلى جماعي متعاون، هناك اختلاف بين شعوب القرية الكونية لا ينكره عاقل، لكن تجمعنا قواسم إنسانية مشتركة يجب أن تراعى وتقدر لتنفيذ سياسات تصب في صالح الإنسانية جمعاء دون تحيز أو عنصرية أو تمييز.

العدل والإخاء الإنساني هو ما يحتاجهما كوكبنا ليحقق التوازن البيئي والإنساني، وعلى المواطن العالمي أن يعي أن التكاثر الإنساني نعمة وليس نقمة لو أحسنا استغلالها ومنحت فرص عادلة للجميع، معيار نجاح الدول لابد أن يتغير فلا يكون: تكدس الثروة لديها وقدرتها على الهيمنة، لكن في مقدار ما تقدمه من عون لغيرها، سبب فقر الدول النامية ليس زيادة النسل لكن فساد أنظمة الحكم بها وسوء إدارتها وهيمنة الدول الكبرى على الاقتصاد العالمي وشهوة التميز والاستحواذ التي ستؤدى إلى التهلكة.

المصدر : الجزيرة مباشر