احتجاج منكري الحجاب بكشف الجواري للشعر

النقاش حول الحجاب، أي تغطية جسد المرأة ما عدا الوجه والكفين، يثار منذ سنوات عدة، في مصر والعالم العربي والإسلامي، بل والغربي، وهو نقاش برز في الآونة الأخيرة أكثر، وبغض النظر عن افتعال معاركه وإعطاء المعركة أكبر من حجمها، فإن هناك قضية تثار في الموضوع، تعد من باب ما تكلم عنه الفقهاء وسكت عنه الناقدون فترة طويلة، شأن قضايا فقهية أخرى، خرجت من فم صحابي، أو فقيه، فسكت عنها الناس، ثم صارت رواية أو رأيا يتم تداوله بكثرة في المدونات الفقهية، مثل قضية عورة الجارية (الأَمَة)، وكونها كعورة الرجل، أي ما بين السرة والركبة، ولذا فلها أن تظهر شعرها وصدرها، وظهرها، كالرجل تماما.

اتخاذ عورة الجارية دليلا لنفي وجوب الحجاب

ويتكئ منكرو الحجاب على مثل هذا القول، فيحتجّون بأن الجارية التي تخرج بدون غطاء لرأسها هي أنثى كبقية الإناث، فالخلاف في العورة هنا مدعاة لجعل حجاب الحرة لعامل اجتماعي، وليس لأمر شرعي ديني ثابت مستمر، ويستدلون بأن عمر بن الخطاب رأى جارية مرتدية الحجاب فأمرها بخلعه، ونهاها عن التشبّه بالحرائر.

هذه المسألة تطرح عدة أسئلة مهمة تتعلق بموضوع الحجاب، وتتعلق بمسألة أقوال الفقهاء، وما يستندون إليه، وهل آراؤهم تعتبر نصا يستدل به أم أن الباحث والفقيه لا بد أن يعرض هذه الآراء على ميزان الكتاب والسنة ومنهج الإسلام بكلياته وجزئياته معا؟ فعلام استند القائلون بأن عورة الجارية المملوكة تختلف عن عورة الحرة؟ وهل هو رأي صحيح من حيث الاستدلال بالنصوص، وما خلفيات هذا الرأي؟

أما عن كون هذا الرأي موجودا في كتب الفقه، فنعم، وأقل ما فيه أن شعر الجارية عند الأئمة الأربعة ليس عورة، وخلافهم في الكتف والظهر والصدر، واتفاقهم كذلك على ما بين السرة والركبة، دون دخول في تفاصيل المذاهب الفقهية وخلافاتها حول بعض هذه التفاصيل، لكن هذه هي النظرة المجملة لعورة الجارية، فهي عندهم كعورة الرجل أو تختلف قليلا، وليست كعورة الحرة.

لا يوجد نص قرآني يميز عورة الجارية عن الحرة

أما عن نصوص القرآن الكريم، وحديثها عن عورة المرأة، أو ما ترتديه المرأة، فليس هناك تفريق، بل هو أمر يشمل الجميع حرائر كنّ أو غير حرائر، فعورة الأمة كعورة المرأة الحرة تماما. وهو ما فهمه ابن حزم وبينه حين قال: “وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد، والخلقة والطبيعة واحدة، كل ذلك في الحرائر والإماء سواء، حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده، فإن قيل: إن قول الله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن} (النور: 31)، يدل على أنه تعالى أراد الحرائر قلنا: هذا هو الكذب بلا شك؛ لأن البعل في لغة العرب السيد، والزوج، وأيضا فالأمة قد تتزوج؛ وما علمنا قط أن الإماء لا يكون لهن أبناء، وآباء، وأخوال، وأعمام، كما للحرائر”، ثم قال: “وليس في القرآن، ولا في السنة فرق في الصلاة بين حرة ولا أمة”.

وقد حاول بعض المفسرين تفسير قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} (الأحزاب: 59)، بأن المقصود أن تتميز المرأة الحرة عن الأمة، حتى لا تؤذى الحرة، وهو كلام لا يستقيم دينيا. وهو ما جعل ابن حزم يشن حملة على القائلين به، إذ قال: “ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد، الذي هو إما ‌زلة ‌عالم ‌ووهلة ‌فاضل غافل، أو افتراء كاذب فاسق؛ لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين، وهذه مصيبة الأبد، وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنى بالحرة كتحريمه بالأمة، وأن الحد على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق، وإن تعرض الحرة في التحريم كتعرض الأمة ولا فرق، ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام”.

وقال ابن القطان في كتابه إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر: “قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31)، نهي مطلق للنساء كلِّهن، حرةً كانت أو أمة، عن إبداء كل زينة لكلِّ أحد، رجل أو امرأة، أجنبي أو قريب أو صهر، هي مطلقة بالنسبة إلى كلِّ زينة، ومطلقة بالنسبة إلى كل مبدية، ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر”.

ضعف أحاديث اختلاف عورة الحرة عن الأمة

وأما السنة النبوية فقد وردت عدة أحاديث في مسألة عورة الجارية، وقد رواها الإمام البيهقي وغيره في السنن، وهي:

قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره، فلا ينظرن إلى عورتها”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره، فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة”. وقد قال البيهقي عنهما بعد روايتهما: “فأما حديث عمرو بن شعيب فقد اختلف فى متنه، فلا ينبغي أن يعتمد عليه في عورة الأمة، وإن كان يصلح الاستدلال به وبسائر ما يأتي عليه معه في عورة الرجل”. وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: “واعلم أنه لم يثبت في السنة التفريق بين عورة الحرة وعورة الأمة”.

بل إن البيهقي اعتبر هذه النصوص تتعلق بموقف الرجل مالك الجارية في عدم النظر إليها وليس العكس كما فهم البعض، فقال: “والرواية الأخيرة إذا قرنت بالأولى دلتا على أن المراد بالحديث، نهي السيد عن النظر إلى عورتها إذا زوجها، وهي ما بين السرة إلى الركبة، والسيد معها إذا زوجها كذوي محارمها… والصحيح أنها لا تبدي لسيدها بعدما زوجها، ولا الحرة لذوي محارمها إلا ما يظهر منها في حال المهنة”.

موقف عمر بن الخطاب

وأما قول عمر وموقفه، حين رأى جارية متقنعة، أو ترتدي جلبابا، فنهاها عن ذلك، وأمرها بخلعه، وألا تتشبه بالحرائر. فهو حديث عن قناع، أي غطاء للوجه، كما في رواية، وفي رواية جلباب، والجلباب هو: غطاء فوق الخمار الذي يغطي الرأس، وهناك قول ثالث فسر به فعل عمر وهو قول رواي الحادثة الإمام البيهقي إذ قال: “والآثار عن عمر بن الخطاب فى ذلك صحيحة، وأنها تدل على أن رأسها ورقبتها وما يظهر منها في حال المهنة ليس بعورة”.

وعلل الخطيب الشربيني قول عمر بأنه: “محمول على الإماء المبتذلات البعيدات عن الشهوة”، والمبتذلات هنا في لغة الفقهاء، أي من تبذل جهدها بالعمل والخدمة، وليس من الابتذال بالمعنى المعاصر. أما ابن حزم فقد رد ذلك تماما، واعتبره رأيا لعمر يرده الشرع، فقال: “لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا تنازع السلف رضي الله عنهم، وجب الرد إلى ما افترض الله تعالى الرد إليه من القرآن والسنة”.

فقهاء غيروا موقفهم من عورة الجواري

إن ما نراه في كتبنا الفقهية من نظرة ومعاملة للجواري والعبيد، لا تعبر عن موقف ديني بحت، بل منها ما يعبر عن نظرة اجتماعية، بحكم المجتمع والبيئة، فقد تم التعامل مع الرقيق على أنه سلعة، فهو يباع ويشترى في الأسواق، وهو ميراث من البشرية قبل الإسلام، ولذا وجدنا تفريق فقهاء بين قتل الحر والعبد، فالحر لو قتل يقتل قاتله قصاصا، لكن العبد، اعتبروه مالا، فمن أسماء الرقيق: المملوك، أو المماليك، أي ما يملكه الإنسان للبيع والشراء، وإذا أراد حريته فمن وسائلها: أن يتنازل سيده عن حقه فيعتقه، أو يشتريه آخر فيعتقه، أو يعمل الرقيق ليشتري نفسه من مال عمله.

فكان التعامل بهذا المنطق المالي من حيث المعاملة القانونية للرقيق، كقيمة مالية، فلو قتله حر، يدفع القاتل لسيده ثمنه، بحسب رؤية عدد من الفقهاء، بخلاف الأحناف وغيرهم، ولذا فسنجد في مدوناتنا الفقهية التعامل مع الرقيق بهذا المنطق، فمن يذهب إلى السوق ليشتري جارية يريد أن يرى ما يدعوه لشرائها، فتم التعامل بهذا المنطق، وهو منطق اجتماعي، رفضه فقهاء آخرون من حيث النظر التشريعي للأحكام.

وهناك فقهاء من نفس المدارس الفقهية التي رأت أن شعر الجارية لا بأس بكشفه، وذلك بعد أن دخلت جنسيات أخرى سوق الرقيق، ووفدوا إلى بلاد المسلمين والعرب، من الروم والفرس والترك، فرأينا أئمة يفتون بأن الجارية هنا ترتدي كما ترتدي الحرة، فهو دلالة على أنه لم يكن رأيا دينيا، بل كان رأيا مبنيا على العرف، وإن بني على غير أساس صحيح، من هؤلاء: ابن القطان، وابن تيمية، والزرقاني، وغيرهم.

موقف الأحناف من المساواة بين الحر والعبد

والحقيقة أن أقرب موقف للصواب الفقهي في التعامل الفقهي مع الحر والعبد، أو الحرة والجارية، هو موقف المذهب الحنفي، ففي غير مسألة عورة الجارية، نرى موقفه موقفا مبنيا على عموم النصوص الشرعية، فقد أخذ الأحناف قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة: 178) على أنه نص عام يقضي بالقصاص على كل قاتل، سواء أكان حرا أم عبدا، أكان رجلا أم امرأة، مسلما أم غير مسلم، ويرى الأحناف المساواة في ذلك، لأن الله عمم النص، ولم يخصه، وليت موقفهم انطلق من نفس المنهجية -وهي عموم نصوص القرآن الكريم والسنة- في العورات.

لا فرق بين عورة الحرة والأَمة

الحقيقة أن المتأمل لنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، سيجد أن حديثهما عن العورة، حديث واحد، لا فرق بينهما، فآيات القرآن أمرت المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج، وستر العورة، وهو خطاب عام لكل مؤمنة، ولا فرق في خطاب الإيمان بين الحر والعبد، كما وردت نصوص السنة النبوية كذلك بالعموم دون تخصيص، كقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تقبل صلاة حائض ‌إلا ‌بخمار}، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فاختبأت مولاة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “حاضت؟” فقالت: نعم، فشق لها من عمامته، فقال: “‌اختمري بهذا”.

فالأوامر القرآنية والنبوية هنا بستر العورة، لم تفرق بين حرة وأمة، بل كان الخطاب واحدا، معتمدا على بلوغ سن ستر العورة، وبذا تسقط هذه الحجة التي يتذرع بها رافضو الحجاب، وقد بنوها على موقف فقهي غير سديد في التأصيل، مع أن نصوص القرآن والسنة واضحة بينة في الأمر.

المصدر : الجزيرة مباشر