عقاب روسيا أم إرغام العالم.. تدوير الهيمنة الغربية والحرب في أوكرانيا

مع إدراك أمريكا والغرب لتآكل الهيمنة والنفوذ في العديد من مناطق العالم، والصعود الصيني، واليقظة الجيوسياسة الروسية؛ كان لابد من العمل على إعادة تدوير الهيمنة الغربية بقيادة أمريكية، بما يضمن استمرار السيطرة على مراكز الثروة في العالم، ويجعل روسيا والصين في مرتبة أدني، وهذا يتطلب ترويضا وإرغاما للمجتمع الدولي؛ يدفع نحو تحقيق “الهدف الجيواستراتيجي” للحفاظ على الهيمنة الأمريكية الغربية؛ وما الحرب في أوكرانيا وتصعيد التوترات مع الصين وإيران إلا وسائل لتحقيق هذا الهدف.

إغلاق الخيارات في وجه موسكو

لقد كان طبيعيا مع مرور الوقت، أن يؤدي عدم الالتفات للمخاوف الاستراتيجية لروسيا من توسع الناتو في دول الاتحاد السوفيتي سابقا، والإغلاق الأمريكي المقصود لأبواب الخيارات الدبلوماسية في وجه روسيا أن تُقدِم موسكو على قرار الحرب في أوكرانيا مهما كان خطيرا؛ فمن أجل الأشياء المهمة يكون الاستعداد للسير في طريق خطير يمكن أن يؤدي إلى تحقيق المجد أو يقود إلى الهلاك.

الوعد بضم أوكرانيا.. الإجابة عند واشنطن

في عام 2007 أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه ضمن مؤتمر ميونخ حول السياسة الأمنية، أن توسع حلف الناتو في أوربا الشرقية يمثل خطرا على استقرار النظام الدولي، ويقلل التفاهم بين القوى العظمي، ويؤجج التوترات العسكرية ويزيد من احتمالات المواجهة.

وقد قرأ عدد من الخبراء الغربيين، على رأسهم “هنري كيسنجر” هذا التحذير بجدية، وعبروا عن مخاوفهم من التهور بمحاصرة روسيا بالتوسع في فنائها الخلفي في أوربا الشرقية وأوكرانيا، ولكن صناع القرار من النخبة الأمريكية لم يهتموا لذلك.

في 2014، وبعد أن أطاحت حركة الميدان الأوربي بحكومة “فيكتور يانوكوفيتش”، وتقلد نظامٌ موالٍ لأمريكا والغرب بقيادة “زيلينسكي”، وتزايد دعم أوكرانيا بالأسلحة الغربية؛ كل هذا ولد القناعة لدى موسكو بأن ذلك ما هو إلا محاولات لتطويق روسيا، ومع ظروفٌ مناسبة؛ فإنه قد تظهر في المستقبل نوايا لغزو روسيا، والسيطرة على أكثر المناطق الحيوية فيما يسمى قلب أوراسيا.

قلق أمريكي

وعلى جانب آخر، وطوال عقدٍ مضى كانت هناك محاولات من القوى الأوربية الرئيسية لإدماج روسيا في المجال الأوربي ماليا واقتصاديا، إضافة إلى تزايد الاعتماد الأوربي على مصادر الطاقة الروسية؛ وهذا ما كان مثار قلقٍ واضح أعربت عنه واشنطن صراحة، وكذلك المملكة المتحدة.

وقد جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتعيد توجيه اصطفاف أوربا خلف الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى تخفيف الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، وخروج روسيا من المؤسسات الأوربية، والتوجه نحو زيادة ميزانيات الدفاع والتسلح، وتغير المفهوم الاستراتيجي للناتو، والذي وصف روسيا بأنها تهديد مباشر للأمن والاستقرار في أوربا، بعد أن كانت تُوصف بأنها “شريك استراتيجي”.

عقاب الذات والمجتمع الدولي؟!

الحرب في أوكرانيا ليست حربا تقليدية تخاضُ بالرصاص والأدوات التقليدية فقط؛ لكنها حرب متعددة الأوجه؛ تشمل الحرب الاقتصادية بين الغرب وروسيا، والهجمات السيبرانية، والحرب الإعلامية والنفسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المختلفة.

وفي إطار نوبة من هستيريا التصعيد ضد روسيا، يمكن القول إن النخب الحاكمة في الولايات المتحدة والغرب، أطلقت الرصاص عمدا وبقصد على مجتمعاتها والمجتمع الدولي، عبر عقوبات اقتصادية ومالية، قاسية متطرفة، فرضتها على موسكو.

لقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية قدراتها على الإرغام، الذي زادت من فرصه العولمة و”نظام الأنظمة العالمي”؛ لفرض عقوبات على روسيا، زاد قسوتها وتطرفها مشاركة الحلفاء الأوربيين.

لقد كان الهدف الظاهر من عقوبات التحالف الغربي ضد روسيا هو: سحق العملة الروسية “الروبل”، ودفع الاقتصاد الروسي نحو الانهيار، وإحداث أزمة في الشارع الروسي؛ مما يؤدي إلى إضعاف موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويفتح الطريق أمام بديل آخر لتولي السلطة.

لكن ما حدث هو العكس تماما؛ حيث تعزز الروبل أما الدولار واليورو، وكان أداء الاقتصاد الروسي أفضل من غالبية الاقتصادات الأوربية، وزادت شعبية بوتين عما كانت قبل الحرب على أوكرانيا.

وقد رأى عدد من المحللين أن هذه الحرب الهجينة ضد روسيا تدمير للذات؛ حيث أضرت بالغرب أكثر من الإضرار بروسيا، كما ستؤدي إلى تسريع التفكيك المستمر للنظام الاقتصادي العالمي القائم على الدولار.

تأثير مدمر على العديد من دول العالم

وعلى جانب آخر فإن العقوبات المفروضة على روسيا أحدثت هزة عنيفة، ولها تأثير مدمر على الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ نتيجة العواقب التضخمية المصحوبة بالركود؛ الناجمة عن العقوبات المالية والاقتصادية، وحظر التجارة مع روسيا، التي تعد مصدرا رئيسيا للعديد من السلع الأساسية والموارد الطبيعية، ومنها: (القمح والذرة، والنفط والغاز، والفحم والمعادن).

 تفسير غربي لا يستقيم

ومع إخفاق العقوبات ضد روسيا في تحقيق مبتغاها المعلن، وتأثيرها السلبي على العالم، وعلى الأمريكيين والأوربيين أنفسهم؛ كان التفسير الغربي بأن العقوبات لم تكن مدروسة بعناية. لكن هذا التفسير لم يكن ليستقيم أمام كثيرٍ من الحقائق على أرض الواقع، ولا يصمد عند معرفة الهدف الاستراتيجي الكامن وراء تلك العقوبات المدمرة، حتى للذات.

على أرض الواقع لم يكن الأمر سلبيا للنخبة الأمريكية والغربية صناع القرار -رجال المال والأعمال والصناعة والنفط-، رغم الآثار السلبية على المواطن الأمريكي والأوربي.

فقد انتعشت سوق السلاح الأمريكية والغربية، إضافة للفوائد العائدة على الصناعة النفطية الأمريكية؛ نتيجة ارتفاع أسعار البترول، والتي تجاوزت حاجز المائة دولار، ووصلت إلى ما فوق 120 دولارًا؛ وهذا سيسمح بتسويق النفط الأمريكي المستخرج من الخام الصخري مرتفع التكاليف، والذي لا يمكن بيعه بأقل من 45 دولارًا للبرميل.

العقوبات وإرغام دول الجنوب

في تفسيره للأمر يرى “مايكل هدسون” الخبير الاقتصادي الأمريكي، أن الحرب في أوكرانيا كانت مجرد حافز لفرض عقوبات ينتج عنها أزمات عالمية في الطاقة والغذاء؛ مما يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بإجبار الجنوب العالمي -حسب تعبيره- على أن يكون معنا أو ضدنا.

ومع تفاقم الأزمات العالمية نتيجة أزمة كورونا، قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة؛ مما يؤثر بشكل مباشر على قدرة خدمة ديون دول الجنوب العالمي؛ وبالتالي فإن هذا يضعها تحت حافة الإفلاس، وتحت رحمة البنك الدولي الذي تتحكم فيه أمريكا والغرب.

ختاما

إن الشواهد على أرض الواقع، إضافة إلى وضع الاستراتيجية الأمريكية للحفاظ على الهيمنة في سياقها الصحيح، تؤشر إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية هي نتاج هندسة أمريكية؛ دفعت روسيا دفعا إلى خوض هذه الحرب.

وبالنظر إلى العقوبات المتطرفة ضد روسيا نجد أنها تتناسب تماما مع “الهدف الجيواستراتيجي” بحبس العديد من دول جنوب الكرة الأرضية تحت الهيمنة والنفوذ الغربي، رغم التأثير السلبي للغاية على الدول الغربية، وذلك ضمن خطة تقسيم العالم إلى منطقتين؛ أحدهما تخضع لسيطرة الغرب، ويسعى فيها لضم دول العالم الغنية بالموارد، والأخرى هي الدول خارج منطقة الاصطفاف الأمريكية الغربية، وذلك في إطار محاولات إعادة تدوير الهيمنة الغربية.

ومع كل الاحتمالات والسيناريوهات الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، فإنه لا شك أن هناك لحظة مرتقبة، سيتجاوز فيها العالم الأحادية القطبية الأمريكية، ومحاولات الترويض والإرغام الأمريكية، وهذا من السنن الكونية.

 

المصدر : الجزيرة مباشر