العاملون في الحقل الإسلاميّ وتعطيلُ الإنجاز

الحجر الأسود

عندما أعادت قريش بناء الكعبة ووصلت إلى مرحلة وضع الحجر الأسود في مكانه، اختلفت القبائل حول مَن يُسَجَّل باسمه الإنجاز.

توقّف العمل، وتعطّل المشروع، وتنامى التّنازع والاختلاف، وكاد الأمرُ يصلُ إلى الاقتتال وإراقة الدّماء لولا أن تدخّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأشار عليهم بوضع الحجر في ثوبٍ تمسكُ كلّ قبيلةٍ بطرف منه ليشتركوا معًا في تحقيق هذا الإنجاز ووضع الحجر الأسود مكانه.

كم هي الإنجازاتُ التي تعطّلت؟ وكم هي المشاريعُ التي توقّفت؟ وكم هي الاختلافاتُ التي تنامَت وتعاظَمت بين الكيانات والجماعات والتّنظيمات والتيّارات القائمة حول من يسجَّل باسمه الإنجاز؟! بل كم هي المشاريع التي تمّ إفشالُها وتعطيلُها داخل الجماعة الواحدة والتيّار الواحد والكيان الواحد لأجل مَن يسجَّل باسمه الإنجاز؟!

الماركة المسجّلة

“التّجار وحدَهم هم الذين يحرصون على العلامات التجاريّة لبضائعهم كي لا يستغلّها الآخرون، ويسلبوهم حقّهم من الرّبح، أمّا المفكّرون وأصحاب العقائد فكلّ سعادتهم في أن يتقاسَم النّاس أفكارَهم وعقائدَهم ويؤمنوا بها إلى حدِّ أن ينسبوها لأنفسِهم لا إلى أصحابها الأولين!

إنهم لا يعتقدون أنّهم أصحاب هذه الأفكار والعقائد، وإنّما هم مجرّد وسطاء في نقلها وترجمتها، إنهم يحسّون بأن النّبع الذي يستمدّون منه ليس من خَلقِهم، ولا من صنع أيديهم، وكلّ فرحهم المقدّس إنّما هو ثمرة اطمئنانهم إلى أنّهم على اتصالٍ بهذا النّبع الأصيل”.

بهذه الكلمات صوّر سيّد قطب لبَّ المشكلة، ولئن كان قد تحدّث عن الأفكار والعقائد؛ فإنَّ مخرجاتِها وهي الأفعال والمشاريع والبرامج تنسحب عليها أكثر من غيرِها هذه المعارك الباردة والتّنافس غير الأخلاقيّ في سبيل العلامات التّجاريّة.

وهنا يكمن الفرق الكبير بين التّجار وأصحاب الرّسالات؛ فالتّجّار يخوضون معاركهم من أجل تحصيل الرّبح الذّاتي، أما أصحاب الرّسالات فهمّهم هو الرّبح الجمعي الذي يصبّ في خدمة الغاية العظمى والأهداف الكبرى التي يشتركون فيها مع غيرهم ويقيمون معاركَهم على هذا الأساس.

فإن رأيت من يحملُ رسالةً ساميةً همّه تعطيل إنجاز الآخرين الذي يصبّ في خدمة هدفه، وذلك بغية أن يسجّل هذا الإنجاز لاحقًا باسمه هو، أو حتّى يكون له قصب السّبق عند عرض الإنجازات والتّفاخر بها؛ فاعلم أنّه قد داس رساليّته بتحوّله إلى التّجارة الرّخيصة الخاسرة، ولو أقسم لك الأيمان المغلّظة أنّه يفعل ذلك ابتغاء خدمة الإسلام وتفانيًا في خدمة هذا الدّين العظيم، واعلم أنّ همّه ذاته الضيّقة أو حزبيّته المقيتة ولو أقسم لك أنّه يريد بمعاركه البهلوانيّة خدمة الصّالح العام.

بين توثيق الإنجازات وتعطيلها

من الضّروري جدًّا أن يوثّق المرء أو المؤسّسة أو الجماعة أو الكيان إنجازاته ليكون قادرًا على محاسبة نفسه ومعرفة مواطن الصّواب والخلل في طريقه إلى تحقيق أهدافه وخدمة رسالته.

ومن حقّ المرء أو المؤسّسة أو الكيان أو الجماعة أو التيّار أن تُنسَب إنجازاته إليه، ويفرح بذلك، وهذه فطرةٌ في المرء لا يجادلُ فيها أحد.

ولكن أن يتمّ تعطيل الإنجازات بسبب التّنافس فيمن يكون هذا الإنجاز باسمه ومنسوبًا إليه؛ فهذه خطيئةٌ كبيرةٌ يُلبِسها أصحابها ثوبَ الغيرة على العمل والرّسالة والمشروع لإيهام أنفسهم بحسن القصد وسلامة السّلوك القبيح.

وهذا السّلوك بشعٌ للغاية في تعامل الكيانات والجماعات والتيارات فيما بينها؛ وهو يعبّر عن ضيق في الأفق واستحكام العصبيّات الجاهليّة المقيتة، ولكنّه يكون أبشع وأخطر بكثيرٍ حين يتسرّبُ إلى داخل الجماعة الواحدة والتيّار الواحد؛ فتجتهدُ مؤسّسةٌ في تعطيل إنجازات مؤسّسات أخرى من الجماعة ذاتها أو التيّار نفسه لأنّ الإنجاز سيسجّل باسم غيرها، وهذا حين يقع يكون نذيرَ شرٍّ يجب تداركه قبل أن يعصف بهذه الجماعة ما لا يحمد عقباه من التّشقّق والتّمزّق الذي يزداد عبر الزّمن في غفلةٍ من أهلها ليصل إلى حالةٍ من الاحتراب الدّاخليّ العلنيّ الذي يهوي بالكيانات إلى الدّركات؛ فلا تستطيع النّهوض بعدها.

الإمساك بأطراف الثّوب

من الأهميّة بمكان أن يقتنع الإسلاميّون على اختلاف تياراتهم وكياناتهم وجماعاتهم وفصائلهم أنّ الإنجازات الكبرى تتحقّق حين يمسك الجميع؛ الجميع من الإسلاميّين وغير الإسلاميين، والجميع من الإسلاميين على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، والجميع داخل الكيان والجماعة الواحدة دون إقصاء أو تهميش؛ بأطراف الثّوب كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين فعل مع قريش يوم بناء الكعبة.

ومن الضّرورة بمكان أن يؤمنوا بأنّ الوصول إلى هذا الاقتناع يحتاج نفوسًا كبيرةً وقلوبًا واسعة وعقولًا رحبةً والخروج من ضيق الأنا المؤسسية والحزبية والجهويّة إلى سعة الرسالة؛ فالقضايا الكبيرة لا يحملها الصّغار، والإنجازات العظيمة لا يتقن صناعتها الصّغار؛ الصّغار قلوبًا والصّغار همومًا والصّغار أفقًا والصّغار ضيقًا بالآخرين.

فإن لم يكن فلا أقلّ من ألّا يخسروا أنفسهم، ويتبادلوا الضرب من تحت الحزام وهم يبتسمون بعضهم في وجوه بعض، ويدبّجون الكلمات في العمل المشترك والساحة التي تتسع للجميع، ولا أقلّ من ألّا يوقفوا العمل ويعطّلوا المشاريع ويُفشِلوا البرامج التي يمكن أن تنقذ أرواحًا بريئةً أو تخفف وطأة القهر عن أوطان ذبيحة من أجل مَن يُسَجَّل باسمه الإنجاز.

المصدر : الجزيرة مباشر