كلّه بيت القصيد.. أمريكا والعالم

بايدن

يقول في مطلعها: “صرمت حبالك بعد وصلك زينبُ * والدهرُ فيه تَـصَـرُّمٌ وَتَـقَـلُّبُ”. ولولا أن يأخذك قائلها إلى قصيدة كلها “بيت القصيد” لانتهت من مطلعها. فمن الذوائب إلى الغانيات فالصبا والشباب والمشيب والزهد والذنوب والحساب والكتاب والروح ومتاع الدنيا وصحب الزمان.. “وجميع ما حَصَّلْتَهُ وجمعته * حقًّا يقينًا بعد موتك يُنهب”.

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعل العالم كله “بيت القصيد”، مع الاحتفاظ بالثابت لديها وهو وجود وأمن إسرائيل التي اختصها جو بايدن ببداية جولته الشرق أوسطية الحالية، ومنها أطلق إعلان برنامج زيارته الذي استهله بمواجهة إيران ومنعها من حيازة السلاح النووي، وتعزيز أمن إسرائيل وإدماجها في المنطقة، وبعض القضايا السياسية والاقتصادية التي يبحثها بايدن في اجتماع الرياض مع أبرز دول الشرق الأوسط (السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والعراق ومصر والأردن).

بروباغاندا أمريكا لتسويق سياساتها لا تهمل معادلة “الجمهور الأمريكي” لإعطاء فرصة التحرك وتحويل النقيض إلى النقيض وكأننا أمام تاريخية “صناعة الرأي العام”، التي يقول نعوم تشومسكي إن أمريكا وظفتها مبررًا لمشاركتها في الحرب العالمية الأولى، والتي استطاعت بموجبها تحويل المواطنين المسالمين الذين يصفهم واتر ليبمان بالقطيع الضال، إلى مواطنين متحفزين تتملكهم هستيريا الحرب.

رسائل متعددة الأغراض

ومن رمزية القبة الحديدية في إسرائيل جاءت مجموعة من الرسائل بلسان بايدن على أن الولايات المتحدة ستعود إلى الشرق الأوسط؛ لأن الفراغ الذي تركته أعاد الصين وروسيا إلى المنطقة. وكأن أمريكا تريد أن تعيد اللعبة مقلوبة وهي التي أسست لسياسة ملء الفراغ بعد بعثرة الدول وهي الأجدر بملئها اليوم، الأمر الذي يفسر بأنها انتهجت سياسة ترك الفراغ لتوريط خصومها باللّعب في غير ملعبهم ومن ثم الانقضاض عليهم.

خطاب بايدن أكد بوضوح “مواجهة روسيا والتموضع في أفضل وضع ممكن في مواجهة الصين وضمان مزيد من الاستقرار في الشرق الأوسط”. هذا الأمر يدفع إلى تصور أن الأهداف الأمريكية تمر عبر سلسلة تحركات مترابطة.

لا نعتقد أن غير الولايات المتحدة قادر على جمع تلك الأطراف بعد “تأليف قلوبها سياسيا” في اجتماعات تلعب فيها الولايات المتحدة الأمريكية دور التبليغ بسياسة المرحلة المقبلة، مع اعتقاد أن القرار الشرق أوسطي سيكون صعبا لمجموعة اجتماع السعودية إذا ما كان جزء من دوافع حضور بايدن هو إقناع المملكة بضخ المزيد من النفط للسيطرة على ارتفاع الأسعار العالمية، ومحاولة احتواء التضخم المتزايد في أمريكا مع مجموعة أهداف الزيارة التي أعلنها بايدن قُبيل زيارته في مقال بالواشنطن بوست حمل عنوان “سبب زيارتي للسعودية” وتحدث فيه عن عزل ومواجهة إيران.

يقول كسنجر في حديث له قبل سنوات لصحيفة ديلي سكيب “إيران ستكون ضربة البداية في الحرب العالمية الثالثة التي يجب فيها على إسرائيل احتلال نصف الشرق الأوسط. وإن الجيش الأمريكي حال بدء الحرب ضد إيران سيكون عليه ضمان التحالف مع سبع دول في الشرق الأوسط نظرا لأهميتها الاستراتيجية خصوصا أنها تحتوي على البترول”.

تدرك إيران جيدا أن المواجهة حقيقة واقعة هذه المرة مع تورط روسيا بملف أوكرانيا وكون الصين لا تتورط في مواجهة الحرب المباشرة ما دامت تمتلك القدرة على المناورة والاستثمار في الحدث الدولي لصالحها. ولأن الصين تدرك أيضا أن الاندفاع الروسي جاء على خلفية التورط في الوحل الأوكراني، وقد ثبت بعد خمسة أشهر من المواجهة أن إحساسا زائفا بالقوة تملك العقلية الروسية، أو ربما أدخلها التضليل الإعلامي في دوامة وهم القوة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن عدو ولو كان مفترضا لإنفاذ مشروعها التوسعي. ويبدو أن بوتين لم يقرأ جيدا لأسلافه. فعندما أخذ الاتحاد السوفيتي في الانهيار قبل أكثر من ثلاثين عاما، خرج ألكسندر أرباتوف المستشار الدبلوماسي للرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، مخاطبًا المعسكر الغربي قائلًا: “سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو!”. إذن هو الإحساس الزائف بالقوة كما يراه الكثير من الخبراء. ووفقا لكيسنجر أيضا فإن ضرب إيران يجب أن يكون في وقت تنشغل فيه روسيا والصين بأمور أخرى مما يجعل الانفجار الكبير يحدث قبل أن يستفيقا من غفلتهما.

ولهذا جاء الرد الإيراني سريعا ومتكررا بالتحذير من جولة بايدن الشرق أوسطية، مؤكدا أن إيران لديها القدرة على الرد على أي تهديد لأراضيها ومصالحها في المنطقة. وهي التي تشعر بأن التحالف الشرق أوسطي الجديد سينصب في جزء كبير من أهدافه على مواجهة سياساتها التي ذهبت بعيدا وتسببت في الكثير من الاعتداءات والتهديدات بالتدخل في شؤون المنطقة.

تساؤلات ما بعد الزيارة

يبقى الاستفهام قائما في جزء كبير من مساحة الثقة بالموقف الأمريكي تجاه إيران، خصوصا أن الاشتراطات القائمة بين أمريكا وإيران خاضعة للتفاهمات وتغيير المواقف مع أي اتفاق محتمل حول الملف النووي الإيراني بالإضافة إلى الهيمنة الإيرانية على بعض المفاصل المهمة من حركة التجارة البحرية. ذلك ما أورده الرئيس الأمريكي في مقاله من أن ممرات الشرق الأوسط المائية ضرورية للتجارة العالمية، وأن مواردها من الطاقة حيوية للتخفيف من التأثير على الإمدادات العالمية لحرب روسيا في أوكرانيا.

ستحاول إيران -وربما لا تستطيع- أن تكون جزءا من بعض هذه التفاهمات وهي التي أطلقت أمريكا يدها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بعيدا عن تصريحات المجاملة لبايدن وأسلافه بوصف السعودية والخليج بالشريك الاستراتيجي الأقدم. فالأمر صعب هذه المرة أمام معادلة العقاب الروسي الذي ترى أمريكا أنه يجب أن يمر عبر إيران.

ويبقى اجتماع الرياض خاضعا أيضا لمساحة الثقة بالموقف الأمريكي المجرب من الطمأنات الأمنية للمنطقة العربية بتأمينها من نيران الشرق الأوسط إذا ما اندلعت الحرب بين الكبار، وكان العرب طرفها. فماذا سيجني العرب من هذه الزيارة التي ربما لا يكون حضور الزعماء فيها أكثر من أداء دور شاهد فقط.

المصدر : الجزيرة مباشر