سريلانكا.. بين هروب الرئيس والقابلية للتكرار

أمام القصر قبل الاقتحام

في التاسع من يوليو 2022، اقتحم المتظاهرون في سريلانكا قصر الرئيس “جوتابايا راجاباكسا”، الذي فر خارج البلاد حاملاً ما استطاع حمله بعد أن أغرق البلاد في مستنقع الديون ومنظومات متكاملة من الفساد والاستبداد، حتى وصلت حد إعلان الإفلاس والعجز عن سداد الديون، وعدم القدرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين، واستخدام القمع والقهر في مواجهة المحتجين، بدعوى بناء “جمهورية جديدة” منذ 2019.

سريلانكا: القصة من البداية

سريلانكا أو سيلان كما كانت تسمى سابقاً، جزيرة تقع في أقصي جنوب شرق الهند في المحيط الهندي وتشرف بحدودها الشرقية على خليج البنغال، وأقرب الجزر الأخرى إليها هي جزر المالديف التي تقع في جنوبها الغربي، وتبلغ مساحتها نحو 66 ألف كم مربع، ويبلغ عدد سكانها نحو 25 مليون نسمة، وعاصمتها مدينة كولومبو، وتشتهر الجزيرة بإنتاج العديد من المنتجات الزراعية من أشهرها الشاي والبن والمطاط وجوز الهند، بجانب أهميتها الاستراتيجية على طرق التجارة الدولية، وأمام تعاقب الحضارات عليها لأكثر من ثلاثة ألاف العام، أصبحت من أكثر جزر العالم ثراء في التراث الثقافي مما جعلها من أشهر المزارات السياحية في العالم.

ومع تعاقب الحضارات عليها، تغير اسم الجزيرة، فتحولت من “سرنديب” كما عرفها التجار العرب قبل ظهور الإسلام، إلى “سيلاو” عندما احتلها البرتغاليون عام 1505، وتغير الاسم مع الاحتلال الهولندي إلى “زايلان”، ثم حول البريطانيون الاسم إلى “سيلان”، بعد احتلال الجزيرة عام 1802، حتى الاستقلال عام 1948، ثم تحول الاسم إلى جمهورية سريلانكا المستقلة وذات السيادة عام 1972، وصولاً إلى “جمهورية سريلانكا الاشتراكية الديمقراطية” عام 1978.

الحرب الأهلية: ربع قرن من التدمير الممنهج

نجحت موجات الاستعمار المتتالية للجزيرة إلى ترسيخ الانقسام بين التاميل والسنهال، والقول بنظرية سمو العرق السنهالي ورسالته التاريخية كحاضن ومخلد للعقيدة البوذية، في مواجهة التاميل الهندوس، مما ترتب عليه نشأة حركة تحرير نمور التاميل، التي تطالب بانفصال المناطق ذات الأغلبية التاميلية في شمال وشرق البلاد.

وزادت حدة العمليات العسكرية بين الجانبين منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، حيث تعدد العمليات المسلحة والاغتيالات والعمليات الانتحارية، وبين عامي 1983 و1988، سقط نحو خمسين ألف قتيل وتشرد أكثر من مليون لاجئ في البلاد.

وفي عام 1991 أعلنت حركة نمور التاميل مسؤوليتها عن اغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي، رغم دعم الهند للحركة، وفي 1993 اغتال التاميل رئيس الجمهورية بريماداسا، لتبدأ مرحلة جديدة من الحرب الأهلية في البلاد، وصولاً إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومة والحركة، لكنه لم يصمد سوى ثلاثة أشهر فقط، عام 1995، واستمر التوتر والصراع الدامي حتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 2002 برعاية النرويج، وبموجبه قبلت الحركة بالحكم الذاتي وليس الانفصال.

إلا أن الاتفاق لم يحسم الحرب الأهلية، حيث قامت حركة النمور باغتيال وزير البلاد عام 2005، فدخل الجيش في مواجهة مفتوحة مع الحركة، انتهت بنزع سلاحها عام 2009، بعد قتل زعيم الحركة وسيطرة الجيش على آخر جيوب المقاومة للحركة.

الشعب داخل القصر

سريلانكا: 10 أسباب للانهيار.. مقدمات ونتائج

في 12 أبريل 2022، أعلنت سريلانكا أنها ستتخلّف عن سداد ديونها الخارجية، وجاء القرار قبل مفاوضات حول اتفاق إنقاذ مع صندوق النقد الدولي سعيا للحيلولة دون تعثر متكرر أكثر خطورة من شأنه أن يجعل سريلانكا تتخلف كلياً عن سداد ديونها، وفي إطار أسباب هذه الحالة، رصدت دراسة علمية نشرها “المعهد المصري” في مايو 2022، عشرة أسباب لما وصلت إليه سريلانكا، هي:

1ـ تفاقم الديون الخارجية: حيث بلغ مجموع ديون سريلانكا الخارجية نحو 51 مليار دولار، وهي تشكل حوالي 37% من إجمالي الدين العام، والذي يبلغ حوالي 17 تريليون روبية أي نحو 95 مليار دولار أمريكي (أي ما يعادل نحو4300 دولار لكل شخص في البلاد)، وارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة من 42٪ في عام 2019 إلى 104٪ في عام 2021، نحو 48% من الدين الخارجي قروض بشروط ميسرة، و52% ديون من الأسواق على أساس عقود قصيرة الأجل.

وتبدو ضخامة هذه الديون عند نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي يقل عن 85 مليار دولار أمريكي (أي حوالي 60%)، وكذلك عند نسبتها إلى الصادرات السنوية للبلاد والبالغة حوالي 13 مليار دولار، أي أن الديون الخارجية تشكل أكثر من أربعة أضعاف الصادرات السنوية تقريبا. كما أن مقارنة رقم الديون الخارجية بقيم الواردات السنوية البالغة 18 مليار دولار يشير إلى تجاوزها ضعفي ونصف هذه الواردات.

وتتضمن القروض فوائد بنسبة تصل إلى 8%، وهذا المعدل لم يقتصر على القروض التجارية والاستثمارية وانما امتد لقروض المساعدات خاصة الثنائية منها، وبلغت مدفوعات الفائدة 95.4٪ من الإيرادات الحكومية عام 2021.

2ـ الاعتماد على الاقتراض من الصين: تعتبر الصين أكبر مُقرض لسريلانكا، ويبلغ إجمالي ديونها للصين ثماني مليارات دولار، أي ما يقرب من سدس إجمالي ديونها الخارجية، من أجل تمويل مشاريع البنية التحتية للجمهورية الجديدة. وبناء الموانئ، وهي مشروعات يستغرق إنشاؤها وقتاً طويلاً، ولم يتولد عنها الدخل الكافي لسداد الفوائد أو الأقساط، وكانت النتيجة أن وضعت الصين يدها على مرفأ “هامبانتونتا” لمدّة 99 عاماً، كما استولت على 15 فدّاناً من الأراضي بالقرب من المرفأ، إضافةً إلى امتيازات ضريبية للمنشآت الصينية في سريلانكا لمدة 32 عاماً، في إطار سياسة النظام السريلانكي لتسييل أصول الدولة وبيعها للأجانب أمام عدم القدرة على سداد الدين، وتبرير ذلك بأنه “نوع من أنواع تعزيز الاستثمارات الأجنبية، وأن ذلك دليل على ثقة الأجانب في اقتصاد الدولة”.

3ـ انخفاض التصنيف الائتماني للدولة: في عام 2004 (أي قبل تولي ماهيندا راجاباكسا) بلغت القروض التجارية 2.5% من القروض الأجنبية لسريلانكا، وبنهاية عام 2019، وصلت 56% من القروض الخارجية للبلاد، وبعد توليه أيضاً وفي عام 2007، أصدرت سريلانكا أول سندات سيادية دولية (ISB) بقيمة 500 مليون دولار وبدأت في جمع الأموال باستخدام أسواق رأس المال الدولية، وبسبب الاعتماد الكبير على ISBs، تغيرت تركيبة الديون الخارجية لسريلانكا بالكامل.

4ـ إنفاق القروض الأجنبية على المشروعات الخدمية: يقول معارضو النظام في سريلانكا: “عندما تذهب إلى الجنوب فإنك ستجد مراكز مؤتمرات وملاعب كريكيت، كما تشاهد أبراجاً تجارية، أقيمت بديون من أموال الشعب، لم تُنفق على خدمة الشعب، وإنما على مشاريع عديمة الفائدة للشعب والمستفيد منها أشخاص معينين”.

5ـ السحب من الاحتياطيات لسداد الديون الحكومة: فقدت سريلانكا إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية الدولية، كما فقدت قدرتها على الحصول على القروض التجارية، وبدأت في الاعتماد على احتياطاتها الأجنبية للوفاء بالتزامات ديونها، مما قلص احتياطاتها من 6.9 مليار دولار في 2018 إلى 2.2 مليار دولار عام 2022. ثم قامت الحكومة في مارس 2022 بتعويم الروبية وخفض قيمة العملة حتى تصبح مؤهلة للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي وتشجيع التحويلات المالية.

6ـ التأثيرات العكسية للتخفيضات الضريبية: منذ أوائل التسعينيات، انخفضت نسبة الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي من متوسط ​​12.7٪ بين عامي (2017-2019)، لتصل إلى 8.4٪ في عام 2020. لكن في المقابل كانت القرارات السياسية غير سليمة مع توسع نفوذ الرئاسة على الخزانة وتهميش دور وزراء المالية، وأدت التخفيضات الضريبية إلى خسارة المليارات من عائدات الضرائب، وارتفع الدين العام من 94٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019 إلى 119٪ عام 2021.

7ـ أزمة القطاع السياحي في ظل كورونا: تعتبر السياحة أحد أهم مصادر الدخل في سريلانكا، لكن البلاد تعرضت لأزمتين كبيرتين كانت لهما انعكاسات شديدة الخطورة على قطاع السياحة، الأولى تفجيرات أبريل 2019، التي استهدفت عدداً من الفنادق والكنائس، وأسفر عن مقتل أكثر من 250 شخصاً، والثانية كانت أزمة كورونا وما ترتب عليها من فرض قيود على السفر في جميع أنحاء العالم، بما فيها سريلانكا التي استقبلت أقل من مائتي ألف سائح عام 2021، بعد أن كان العدد يتجاوز نحو 2.3 مليون عام 2018.

8ـ أزمة القطاع الزراعي: بجانب القطاع السياحي، تأتي أهمية قطاع الزراعة كأحد أهم مصادر الدخل القومي للدولة، وجاء التدمير الممنهج لهذا القطاع، بسبب السياسات التي تبناها الرئيس “جوتابايا راجاباكسا”، والتي كان من بينها قرار حظر جميع الأسمدة الكيماوية في سريلانكا في أبريل 2021، في محاولة لتقويض الدعم المقدم للمزارعين، وعلى الرغم من إلغاء قرار الحظر بعد احتجاجات واسعة من جانب المزارعين، إلا أن الواقع شهد وصول عدد قليل فقط من الأسمدة الكيماوية إلى المزارعين، وكانت النتيجة انخفاض سنوي في الإنتاج الزراعي بنسبة 30٪.

9ـ تداعيات الحرب الأوكرانية: حيث تأثرت الصادرات السريلانكية، وخاصة صادرات الشاي، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر مستوردين للشاي السريلانكي، هذا بجانب ارتفاع أسعار الوقود عالمياً وما ترتب عليه من ارتفاع كل السلع والخدمات التي يعتمد عليها المواطنون، مما فاقم من الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من السكان.

10ـ فرض حالة الطوارئ: في السادس من مايو 2022، أعلن رئيس سريلانكا، فرض حالة الطوارئ في البلاد لدواع أمنية، وسط إضراب وطني شامل دعت له النقابات للمطالبة باستقالة الحكومة، وتمنح حالة الطوارئ في البلاد، التي تم إعلانه للمرة الثانية خلال شهر ونصف، قوات الأمن صلاحيات موسعة أمام التظاهرات واسعة النطاق. وبفرض حالة الطوارئ، تُمنح قوات الأمن صلاحيات موسعة تتيح لها اعتقال المشتبه بهم وتوقيفهم لفترات طويلة من دون إشراف قضائي، كما يسمح القرار بنشر الجيش حفاظا على النظام العام بمؤازرة الشرطة.

الدعوة للاضراب

وفي المقابل التزم ملايين العمال بدعوة النقابات إلى الإضراب، مما تسبب في وقف حركة كل القطارات تقريبا، كما توقفت الحافلات الخاصة، وتجمع العمال أمام مصانعهم، ورُفعت أعلام سوداء في جميع أنحاء البلاد تعبيرا عن الغضب من الحكومة، وأطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع واستخدمت خراطيم المياه لتفريق طلاب حاولوا اقتحام البرلمان.

ورغم فرض حالة الطوارئ، لم تتوقف المظاهرات والاحتجاجات، ولم تهدأ الميادين في معظم مناطق البلاد، حتى كان التاسع من يوليو 2022، حيث اقتحم المتظاهرون قصر الرئيس الذي فر هارباً، تاركاً البلاد تغرق في مستنقع الديون، بعد أن ظل لنحو 17 عاماً يتحدث عن إنجازات وهمية، ومشروعات عملاقة وبنية تحتية لدولة عصرية وجمهورية جديدة، في وقت كان الملايين غير قادرين على سد احتياجاتهم الأساسية.

ومع هروب الرئيس، وتعدد الحالات المعاصرة، دولياً وإقليمياً، بل وعربياً، المشابهة للحالة السريلانكية، أصبح السؤال المطروح: هل تقود نفس المقدمات إلى نفس النتائج في نفس النظم التي تشهد نفس الممارسات والسياسات التي تبناها “راجاباكسا”؟

ليلة قضاها الشعب في الشارع
المصدر : الجزيرة مباشر