سينما الهزيمة.. عصفور يوسف شاهين وابنه الضال

يوسف شاهين

كثيرًا ما أتساءل بيني وبين نفسي: كيف استطاع أنور السادات تغيير خريطة مصر السياسية وتوجهها في 15 مايو/أيار 1971، وفكك دولة عبد الناصر في يوم وليلة، ثم في 15 مايو/أيار 1974، تغيرت الخريطة الاقتصادية، ثم في سبتمبر/أيلول 1977، كان التغيير في بوصلة المعركة الأم: معركتنا في فلسطين، وذلك بزيارة القدس. وطوال سنوات طويلة تغيرت رؤيتي لهذا التغيير، وبينما الآن وأنا أحضّر لهذا المقال عن أفلام السينما التي تناولت هزيمة الخامس من يونيو/حريزان 1967، تلمست بعضا مما يفسر السؤال السابق، وبالتحديد مع فيلمين من أفلام يوسف شاهين هما: العصفور إنتاج 1972، وعودة الابن الضال إنتاج 1976، ففي هذين الفيلمين قدّم يوسف شاهين مع ثنائي من المبدعين هما: لطفي الخولي وصلاح جاهين رؤية لما أدى إلى هزيمة يونيو وما بعدها من هزائم تتالت حتى وصلت إلى قمتها بزيارة السادات للقدس والاعتراف بالكيان الصهيوني، وما تبعها حتى الآن.

بعض من الإجابة عن هذه الأسئلة تكشفت من خلال جملة ترددت داخلي خلال مشاهدتي لفيلمي شاهين وهي: (الإيمان.. لقد افتقد أغلبية رجال دولة عبد الناصر إيمانهم بالتجربة وقيمها فتخلوا عنها بمجرد قرار من السلطة، بينما كان شباب الثورة أو المؤمنين بها في السجون وبلا سلطة حقيقة).

لقد قدّم يوسف شاهين خلال المدة من 1968، حتى 1976، مجموعة من أهم أفلامه فنيًا وفكريًا وهي: (النيل والحياة)، (الأرض)، (الاختيار)، (العصفور)، (الناس والنيل) و(عودة الابن الضال) الذي أعدّه قمة إبداعه الفني.

 

العصفور.. بهية بتقول لأ: ها نحارب

مصر يا أمّة يا بهية يا أمة طرحة وجلابية

الزمن شاب وأنتِ شابة هو رايح أنتِ جاية

كانت هذه الأغنية من كلمات أحمد فؤاد نجم وألحان الشيخ إمام عيسى هي السيمفونية التي عزفها يوسف شاهين طوال فيلمه الذي تناول أحداث الأيام العشر الأولى من شهر الهزيمة، إذ يبدأ الفيلم مع أخبار الحشد الإسرائيلي على جبهة الجولان مع دقات موسيقى علي إسماعيل في أنشودة (رايحين شايلين في أيدنا سلاح) من كلمات نبيلة قنديل.

يحاول يوسف شاهين في الفيلم الذي كتبه لطفي الخولي، وشارك في كتابة السيناريو والحوار أن يبحث في أسباب الهزيمة، فقدّم يوسف من خلال الفيلم صراعًا بين جيلين، جيل المسؤولين وهم الذين تولوا المسؤولية بعد ثورة يوليو، وجيل شباب يوليو الذين آمنوا بالثورة وما طرحته من أفكار، والذين يحاولون أن يتمردوا على الجيل القديم الذي مارس السياسة قبل الثورة، وتصدروا المشهد بعدها بأفكارهم نفسها، يشير هنا شاهين إلى هزيمة جيل بأكمله كان هو واحدًا منهم، هناك من يحمل أفكار الثورة، ولكنه بعيد كل البعد عن صنع القرار، وهناك انتهازيون استغلوا شعارات الثورة ليحققوا أهدافهم الخاصة.

يجتمع الشباب بأفكارهم وأحلامهم عند بهية (محسنة توفيق) صاحبة بنسيون في وسط البلد، يوسف صحفي (صلاح قابيل) درس الحاسب الآلي في فرنسا، ويرفض أن يشارك في مشروعات والده (مسؤول في الدولة) مع الأمريكيين، ويبحث يوسف في حقيقة سرقة آلات أحد مصانع القطاع العام في الصعيد، الذي كان حلم مدينة كاملة في تشغيل أبنائها، لكنه لا يستكمل على مدار ست سنوات، فكلما جاءت له “ماكينات” سرقت، ويتهم أبو خضر أحد لصوص الصعيد بسرقة الآلات، ولكن يوسف يكتشف أن أبا خضر ما هو إلا ستار للصوص كبار سرقوا الثورة وأحلام الناس وفي أماكن نافذة في الدولة، الاتحاد الاشتراكي واللجان التنفيذية، وقيادات الداخلية، والمناصب السياسية، هي معركة بين المؤمنين والانتهازيين.

رؤوف (سيف عبد الرحمن) ضابط شرطة نصفه يميل إلى الإبداع وراثة عن من رباه، ونصفه ضابط شرطة وراثة عن أبيه الحقيقي، يؤمن بيوسف ويشارك معه في الوصول إلى الحقيقة، حقيقة اللصوص الشرعيين، ومعهم الشيخ أحمد نصف أزهري مع نصف صعلوك قادم من الصعيد للتعلم، ولكنه يتوه في زحام القاهرة، الشيخ أحمد يعود إلى أسيوط يأخذ بثأر أحد أقاربه (غفير المصنع) الذي لا يكتمل ست سنوات بسبب السرقات، فيكتشف مع يوسف ورؤوف الحقيقة أن أبا خضر ما هو إلا ذراع للصوص كبار يسرقون أحلام الوطن ومقدراته.

يسير كل هذا بالتوازي مع أحداث يونيو المريرة التي تبدأ بأحلام الوصول إلى تل أبيب، وتنتهي بعودة الجنود إلى خط الدفاع الثاني في القاهرة، فكيف ننتصر والداخل يتقدم مشاهده لصوص وانتهازيون، لا يؤمنون إلا بثرواتهم ومصالحهم، ويتهمون الشباب بالأحلام والرومانسية الفارغة، ويفتتون مقدرات الوطن لصالح تضخم ثرواتهم.

الشارع يرفض الهزيمة

يخرج عبد الناصر على جماهير الشعب العربي معلنًا الهزيمة في التاسع من يونيو بينما اللصوص لا يعبأون بتلك الهزيمة، ويستمرون في سرقاتهم، وتصرخ بهية في وجه عبد الناصر رافضة تنحيه والهزيمة، وفي صرخة تظل ملهمة لكل الشعوب المقاومة تقول (لأ.. أنا بهية بتقول لأ.. هنحارب هنحارب) يلجأ شاهين إلى الشعب الذي يملأ الشوارع رافضًا الهزيمة والاستسلام، وفي المقابل يفاجأ اللصوص الشرعيون بالشعب في الشوارع الذي يوقف حركة سياراتهم المحملة بـ”ماكينات” المصنع المسروقة والمتوقف منذ سنوات.

يذكّرنا مشهد الشارع بفيلم آخر ليوسف شاهين عن قصة للشاعر الكبير صلاح جاهين هو عودة الابن الضال، ويتناول الفيلم الفترة التاريخية نفسها، ولكنه يمتد من 1965، حتى 1970، حيث يخرج علي المدبولي بطل الفيلم من السجن، والذي يمثل أحلام يوليو المنهارة مع وفاة عبد الناصر، ويعود علي إلى قريته وبيته بعد أن خذل في حلمه يعود مكسورًا محطمًا ليكتشف كل الذين حلموا معه انكساره وهزيمته في سنوات غربته بالقاهرة، ويضع جاهين وشاهين أيادينا على العلة مرة أخرى: إنهم الانتهازيون والمنتفعون الذين يخذلون أحلامنا في كل مكان وزمان، ويلجأ شاهين مرة أخرى للشارع والمستقبل وتكون أغنية (الشارع لنا) محركًا لعودة علي المدبولي بطل الفيلم إلى الواقع بعيدًا عن غيبوبة هزيمة أحلامه.

المستقبل في جيل جديد

في سيمفونية الشجن التي نسجها يوسف شاهين عبر فيلميه عن يونيو كان الأمل الذي وضع عليه أحلامه هو الشباب والأجيال القادمة التي تصر على أحلامها، ففي الفيلم الأول: العصفور كان الأمل الذي وضعه شاهين من خلال الطفل الذي تسبب في إصابة صديقه، ويظن أن شفاءه في زجاجة زيت وحفنة تراب من ضريح الحسين في القاهرة، ورغم كل المعوقات التي تواجهه في الرحلة بلا إمكانيات من أسيوط إلى القاهرة إلا أنه يصمم على ما يريد ليقدم العلاج لصديقه، حتى لو كلفه هذا أن يمشي من أسيوط إلى القاهرة.

أما في فيلم عودة الابن الضال فكان مشهد النهاية دالًا ومشيرًا إلى المستقبل، فبينما يقتل أفراد عائلة المدبولي بعضهم بعضًا بعد انكشاف زيف حياتهم وكذبهم في إشارة إلى التخلص من الماضي، لا يتبقى من العائلة سوى الجد والحفيد الذي أنهى دراسته الثانوية ويذهب إلى الجامعة للدراسة في كلية العلوم، ليكون مثل العالم المصري فاروق الباز، وفي إشارة أخرى يقول الجد لحفيده (امشِ وما تبص وراك تاني).

المصدر : الجزيرة مباشر