عودة الكتاتيب في مصر

حسنًا فعل شيخ الأزهر بإصداره قرار إعادة فتح الكتاتيب لاستقبال الأطفال في رواق الطفل لتحفيظ القرآن، فبمجرد الإعلان عن ذلك وخلال 15 يومًا تقدم حوالي 500 ألف طفل في رواق الأزهر لحفظ القرآن، وبتاريخ 4 يونيو بدأت أعمال التحفيظ بالمستوى الأول من سن 5 حتى 6 سنوات، بطاقة استيعاب بلغت 90 ألف طالب على مستوى الجمهورية.

وقد نال إعلان شيخ الأزهر فتح 507 مقارئ على مستوى الجمهورية استحسان وإشادة الجميع، خصوصًا في ظل تصاعد دعوات الإلحاد والنسوية، التي تستغل جهل بعض الشباب بأمور دينهم.

الثقة بالأزهر

هذا التدافع للالتحاق بهذه المقارئ يؤكد رغبة كبيرة لدى الأطفال وأولياء أمورهم في حفظ القرآن الكريم، وثقة كبيرة بالأزهر الشريف، بعد أن شاهدنا طوال شهر رمضان الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لتكريم آلاف الأطفال والطلاب لحفظهم القرآن في مناطق وأماكن كثيرة من الجمهورية، على أيدي مشايخ وحضانات، بعيدًا عن أروقة الأزهر.

وتأتي عودة الكتاتيب ونحن نعيش في واقع مؤلم ينتشر فيه الإلحاد، وتتعالَى الأصوات التي تدافع عن الشذوذ، وتنشر الإباحية والانحلال من جهة، ومن جهة أخرى تظهر أعمال فنية تروّج للبلطجة وضياع الأخلاق، وفي هذا الجو الملبد بالغيوم ينشأ جيل جديد من الأطفال والأشبال يتأثرون بلا شك بهذا الواقع المظلم، وتحفيظُ القرآن فرصةٌ لننقذ أطفالنا من أوحال الإلحاد، والتطرف، والمهرجانات، والمخدّرات.

وقد جاء قرار شيخ الأزهر بالتزامن مع غضب شعبي من أداء وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة، بشأن تنظيم الشعائر الإسلامية، وتراجع ملحوظ لقوى الإسلام السياسي، مما جعل وزير الأوقاف يتخذ قرارًا مماثلًا بتوسيع مراكز تحفيظ القرآن. كما جاء في وقت لا تبدو فيه علاقة الإمام والوزير على ما يرام؛ إذ نشبت في أكثر من مناسبة معارك بين الطرفين، منها ما يتعلق بمسألة تجديد الخطاب الديني، وتدريب الأئمة والوعاظ وحق الفتوى، وغيرها.

محاولة لانتزاع الأدوار

وقد يكون القرار مستهدفًا دور الجماعات السلفية التي جرى تقييد نشاطها السياسي والديني منذ سنوات، والتي كانت تطمع في شغل الفراغ الذي تركه الإخوان، ولكنه في العموم يصبّ في مصلحة عودة الحياة الدينية في مصر حتى لو كان الأمر يبدو نوعًا من المنافسة بين الأزهر والأوقاف وتيارات أخرى، ومحاولة لانتزاع الأدوار الدينية بالمجتمع. إذ تظهر بين الحين والآخر مؤشرات صراع رسمي بين مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف حول أحقية أي منهما بتمثيل المجال الديني الرسمي.

ولأن عودة الكتاتيب قد تثير حقدًا عند بعضهم فلم تخف الكاتبة سلوى بكر ذلك في لقاء تلفزيوني، حيث ربطت بين التعلم في الكتاتيب والإرهاب، وقالت: “كيف يقوم طفل في المرحلة الابتدائية بحفظ آيات قرآنية لن يفهمها”.. و”ليه نعمل مقرأة للقرآن ونصبغ الطفل بهذا الاختيار.. وهذه سرقة للطفولة”!

ولأنها قد لا تعرف أهمية الكتاتيب في التربية والتعلم فهي لا تعلم أن أصول الكتاتيب تعود إلى أقدم العصور، فقد عُرِفَت في العصور الفرعونية بـ”مدارس المعابد”، وهي مدارس متصلة بالمعابد الفرعونية كانت تمنح لطلابها شهادة “كاتب تلقي المحبرة”، واستكملت الكتاتيب مشوارها في العصر المسيحي، فكانت تقوم بتعليم طلابها بعضًا من الكتاب المقدس والمزامير.

بداية الكتاتيب

وظهر الكُتَّاب عند المسلمين منذ عهد الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- حيث حضّ على ضرورة التعلّم، فكلّف كل أسير من أسرى الحرب بعد موقعة بدر بتعليم اثني عشر طفلًا من أطفال المسلمين على سبيل الفدية، ومع انتشار الإسلام انتشرت الكتاتيب في جميع الأقطار الإسلامية؛ نتيجة تحمس الناس الشديد للقرآن الكريم، وكثرة الفتوحات الإسلامية، وبالتالي اتساع رقعة الدولة.‏

وانتشرت الكتاتيب في العصر الأموي، وبُني لبعضها مبانٍ مستقلة ملحقة بالمساجد أو منفصلة عنها، أو في بيوت المحفظين أو أمامها، وخرّجت الكتاتيب عظماءَ الفقهاء والحفظة، وعُرِف معلمو الكتاتيب بالمؤدبين والمشايخ، وكان لديهم عرفاء يساعدونهم، واقتصرت مناهجها على القرآن والحديث، ومبادئ القراءة والحساب.

والغريب أن من أشهر المعلمين في العصر الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان مؤدبًا ومعلّمًا للصبيان في الطائف يحفّظهم القرآن، وكان ذلك قبل التحاقه بجند عبد الملك بن مروان، الذي صار من كبار ولاته، وقد ترقّى بعضهم في الوظائف حتى صار وزيرًا، مثل إسماعيل بن عبد الحميد الذي كان يعلِّم الصبيان، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار وزيرًا لمروان بن محمد.

الكتاتيب والتربية

وقد تميز التعليم في الكتاب بالاهتمام بالآداب الاجتماعية، حيث “يقوم المعلم بتأديب الأطفال، وتربيتهم التربية الصالحة، وتعويدهم العادات الحسنة، وتعليمهم كيفية احترام الناس، ومراعاة الذوق والأدب وفقًا للعُرف الجاري، ويأمرهم ببر الوالدين، والانقياد لأمرهما بالسمع والطاعة، ويضرب المعلم طلابه على إساءة الأدب والفُحش في الكلام، وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع.

أما الانطلاقة الكبرى للكتاتيب المصرية فقد حدثت بعد انتشار الإسلام في مصر، ثم انتشرت بقوة في جميع الربوع المصرية، حيث كانت الكتاتيب المصرية تقام في مبانٍ ملحقة بالمساجد أو مبانٍ مستقلة بذاتها، وبها بدأ محمد علي باشا نهضته التعليمية في مصر الحديثة.

ولم تكن الكتاتيب مختصة بالذكور دون الإناث بل كان التعليم في الكتاتيب يشمل الجنسين. لذا فإن قرار شيخ الأزهر بعودة الكتاتيب تحت رعاية مؤسسة الأزهر شيء محمود نتمنّى استمراره، حتى نسهم في تربية النشء من الناحية الدينية، وإثراء الحصيلة اللغوية لدى الأطفال من خلال حفظ القرآن الكريم.

المصدر : الجزيرة مباشر