آثار الحرب الروسية الأوكرانية على الجغرافيا السياسية في تركيا

أردوغان وبوتين

حرب أوكرانيا، التي بدأت بالهجوم الروسي على دونباس في 24 فبراير 2022، ستغير بشكل كبير الجغرافيا السياسية للعالم، وتسرع تشكيل نظام عالمي جديد. ويمكن أيضًا قراءة هذا الهجوم على أنه اعتراض روسي ضد إنشاء نظام ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين، في النظام العالمي الجديد. لذلك تتطلب الصراعات الدائرة منذ 24 فبراير قراءة جيوسياسية جديدة من خلال التحالفات والاستقطابات الجديدة.

أدت هذه الحرب إلى تقارب جانبي المحيط الأطلسي أكثر من أي وقت مضى، وأعادت إحياء الناتو، الذي فقد قيمته ومهمته وكان فيه صراعات شديدة بين أعضائه، وأوصلت الحرب الاتحاد الأوربي -الذي يُعرف بأنه عملاق من الناحية الاقتصادية ولكنه قزم من حيث الدفاع المشترك والسياسة الخارجية- إلى نقطة يمكن أن يؤخذ فيها على محمل الجد في المجال العسكري. وبهذه الخطوة، حقق بوتين واقعًا جيوسياسيًّا لم يستطع أحد تحقيقه.

أسئلة مهمة

إن مسألة كيفية انعكاس الواقع الجيوسياسي المذكور على تركيا مهمة للغاية. موضوع الواردات الغذائية من أوكرانيا وروسيا اللتين توصفان بأنهما مستودع الحبوب في العالم، التحالف الاستراتيجي الذي طورناه مع أوكرانيا في صناعة الدفاع من خلال المسيرات، الاعتماد على الغاز الطبيعي والنفط الروسي لبناء محطات الطاقة النووية وشراء إس -400، مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي التركي. كيف ستتطور هذه العلاقات مع هذين البلدين من الآن فصاعدًا بما فيها الدبلوماسية الملحة التي تتم في سوريا وليبيا وكاراباخ؟ بالإضافة إلى ذلك، إلى أي مدى سيتأثر أمن البحر الأسود الذي نتشارك فيه نفس السواحل، بتغيير محتمل في الخريطة؟ والأهم من هذا كله، أين ستتجه تركيا في حرب الهيمنة بين الناتو والاتحاد الأوربي وروسيا والصين؟ وهل من المحتمل ألا يظل بوتين لاعبا سياسيا؟

الجواب عن كل هذه الأسئلة هو كالتالي: تقييم تركيا لهذه التطورات بشكل عام، وكيف تتصور النظام العالمي الجديد، وعلى وجه الخصوص الموقف الذي طورته مع الأطراف في الحرب الروسية الأوكرانية هو الذي سيحدد الجواب.

منذ البداية، تبنت تركيا علاقة واضحة ومتوازنة ومبدئية وحيادية ومفتوحة للحوار بين الأطراف، وأصبحت هذه السياسة تسمى “الحياد النشط” أو “الوساطة النشطة”. ومع ذلك شمل هذا الموقف أيضًا نموذجًا للسلوك العادل والمنصف، الذي يتضمن أن أوكرانيا لها الحق في التصرف باعتبارها دولة مستقلة وذات سيادة، وأن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم واحتلال دونباس لا يمكن قبوله.

في هذا السياق، رفع هذا الموقف المبدئي تركيا إلى موقع أهم دولة في الناتو يمكنها التفاوض مع كلا الجانبين، وكسب ثقة الجانبين، وتمهيد الطريق لوقف إطلاق النار وإحلال سلام دائم ونهائي من خلال الاستفادة المثلى من الدبلوماسية. على سبيل المثال، حاول الرئيس الفرنسي ماكرون، أن يطور دبلوماسية غير منتهية مع الأطراف، لكنه لم يتمكن من تحقيق أي نتائج، وتمكنت تركيا من جمع وزيري خارجية البلدين، لافروف وكوليبا -اللذين لم يلتقيا منذ عدة سنوات- في منتدى أنطاليا الدبلوماسي. كانت وراء هذا النجاح، الدبلوماسية الرائدة لرئيسنا مع كلا الجانبين، والجهود المكثفة للسياسة الخارجية التركية، والمسار السياسي المؤسسي والسلمي الذي اتبعناه منذ إنشاء الجمهورية.

نتائج الدور

إن هذا الدور بدأ يسفر عن نتائج ناجحة وملفتة للنظر وأدى إلى زيادة أهمية تركيا الجيوسياسية والجيواستراتيجية مرة أخرى لدى حلفائنا، الناتو والاتحاد الأوربي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

فقد وصل الأمر إلى درجة أن جو بايدن، الذي لم يهتم بتركيا ويعتبرها غير موجودة منذ بداية الحرب، كان عليه أن يجتمع مع أردوغان بعد اجتماع الوزيرين في أنطاليا. صرحت نائبة وزير الخارجية الأمريكية، ويندي شيرمان، أثناء زيارتها لبلدنا في 4 مارس 2022 بأن تركيا قد تحولت إلى حليف مهم في الناتو في ظل حرب أوكرانيا، وأن قدرتها على التواصل مع زيلينسكي وبوتين في نفس الوقت يضيف امتيازًا عظيمًا لها، وأن سياستها الشفافة لاتفاقية مونترو، أنقذت المضائق من أن تصبح طرفًا في الحرب، وفي ضوء هذه التطورات، حان الوقت لحل مشكلة أس 400 وF-16 وF-35 واحدة تلو الأخرى.

منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحرب، تحولت تركيا إلى مركز جذب دبلوماسي. وكان أبرز هذه الزيارات لقاء الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بالرئيس أردوغان. تمحور جوهر الاجتماع بينهما حول تقاسم مهمة دور الوسيط بين البلدين من أجل وقف الحرب وإيصال الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوربا عبر تركيا. كان وصول رئيس الوزراء اليوناني ميتسوتاكيس جزءًا متمما لزيارة هرتسوغ. ركز الاجتماعان على نقل غاز ليفياثان إلى أوربا عبر تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية واليونان ليكون بديلا لمشروع إيست ميد، الذي أعلنت الولايات المتحدة أنها سحبت دعمها له. فتحت بريطانيا، التي لم تخف دعمها لهذا المشروع، صفحة جديدة عن استقلال جمهورية شمال قبرص التركية للنقاش الدولي.

من ناحية أخرى، صرح رئيس أوكرانيا زيلينسكي برغبتهم في كون الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وتركيا دولا ضامنة وأعلن أن تركيا وإسرائيل هما الوسيط المثالي. زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي جذب الانتباه بإرسال أسلحة إلى أوكرانيا كانت مصممة لأغراض مماثلة، بالإضافة إلى تخلي ألمانيا عن مشروع نورد ستريم 2، وإنشاء ميزانية دفاعية تبلغ مئة مليار يورو وزيادة الدعم المالي والمادي لحلف الناتو. صرح الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، الذي شارك في منتدى أنطاليا للدبلوماسية، بأن تركيا لعبت دورًا رئيسيًّا في الحرب الروسية الأوكرانية. وشدد على أن تركيا، التي تدعم أوكرانيا بالمسيرات والمساعدات الإنسانية، أثبتت أنها حليف مهم لحلف الناتو من خلال أنشطة الوساطة التي تقوم بها. من ناحية أخرى، صرح وزير الخارجية الأرميني ميرزويان، باستعداده لإقامة علاقات دبلوماسية وفتح الحدود مع تركيا. بالإضافة إلى ذلك، وبالتوازي مع المفاوضات في بيلاروسيا، تم تسجيل مسودة الاتفاقية المكونة من 15 بندا في سجل نجاح تركيا، وقيل إنها صيغت بعد محادثات لوزير الخارجية جاويش أوغلو مع زيلينسكي في كييف ثم محادثات لأوغلو مع لافروف في موسكو.

المكاسب الملموسة

كل هذه الحركة الدبلوماسية المذهلة تظهر أن تركيا حليف لا غنى عنه للحلف الأطلسي. إن العلاقات التي طورتها تركيا حتى الآن وسياستها الخارجية المتسقة والموثوق بها تزودها بإمكانية تحقيق السلام في البحر الأسود الذي فشل الناتو والولايات المتحدة في تحقيقه. لا يوجد احتمال لأن يتحول أي مشروع إقليمي بدون تركيا، وخاصة مشروع إيست ميد، إلى مبادرة مثمرة. لهذا السبب بالذات فالدول التي تقف ضدنا في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط ​​، مثل الإمارات واليونان وإسرائيل ومصر، أدركت خطورة السياسات التي تنتهجها ضد تركيا وبدأت تطبيع العلاقات معها.

إذن، ما هي المكاسب الملموسة لتركيا نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية؟ قبل كل شيء يجب التأكيد على شيئين:

أولًا، أن تقييم الأحداث المأساوية التي تسببت في مقتل هؤلاء المدنيين الأبرياء وهجرة الملايين منهم كان له عواقب جيوسياسية بحتة، وأهمل البعد الإنساني. وفي هذا الصدد، من الجميل أن تركيا، في المرحلة الأخيرة ركزت على وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية وفتح ممر أمني يتيح إجلاء المدنيين. من ناحية أخرى، نحتاج إلى التأكيد على أن أولوية تركيا لتحقيق مكاسب ملموسة هي أن تنتهي هذه المأساة في أسرع وقت ممكن وإنهاء الحرب بوقف إطلاق النار وإحلال السلام في أقرب وقت ممكن. ومع استمرار الحرب، ستنخفض تدريجيا قدرة تركيا على البقاء على الحياد ومواصلة المفاوضات مع الجانبين، خاصة إذا لجأ بوتين إلى مزيد من العنف لإخفاء أخطائه الاستراتيجية وعدوانه الفاشل، أو حول المدن الأوكرانية إلى حلب أو غروزني، فاستمرار تركيا في حوارها مع روسيا في هذه الحالة سيصبح أمرًا صعبًا للغاية من حيث القيم الأخلاقية ومن حيث متطلبات التحالفات التي تنتمي إليها.

بالإضافة إلى ذلك، سيكون السيناريو سلبيا لتركيا إذا خرج أحد الطرفين من الحرب بالتفوق المطلق الساحق. لأن النصر المطلق لأوكرانيا سيحمل التحالف الأنجلو ساكسوني والاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي إلى مستوى جيواستراتيجي أعلى وسيزيد من قدرة هذه الكتلة على خلق ضغط وتوتر من شأنه أن يقيد تركيا من الناحية الجيوسياسية. ومن ناحية أخرى فإن انتصار روسيا في العملية سيؤثر في تركيا في العديد من المجالات والملفات التي نتعاون معها فيها، خاصة في سوريا وليبيا وكاراباخ، وسيؤدي إلى فقداننا لبعض النقاط العسكرية بشكل تدريجي. لذلك فانتهاء قوة كلا الجانبين وضعفهما والتوصل إلى اتفاق في وقت قصير سيفتح لتركيا أفقًا جيوسياسيًّا أكثر مما كان متوقعًا. على أي حال، يبدو أن الاتجاه سيؤدي إلى نتيجة مفادها أن كلا الجانبين سيخسران بدلًا من استراتيجية الربح.

حصار روسيا

أهم العوامل التي خسرت روسيا بسببها؛ المقاومة القوية للشعب والجيش الأوكرانيين، على عكس المعلومات الاستخبارية التي تلقاها بوتين، فالأقلية الروسية لم تقف وراء هذا الهجوم، واجتمع التحالف الغربي بسرعة، مهمشًا روسيا ودفعها إلى خارج العالم المتحضر. في هذا السياق، تعرضت روسيا لآلاف العقوبات الاقتصادية والتجارية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ. فقدمت تركيا وجهة نظر مفادها أنها لن تمتثل لأي من هذه العقوبات، وأن التجارة بينهما يمكن أن تتم بالروبل أو الليرة التركية أو الذهب. يجلب هذا العرض الذكي العقلاني أفقًا واسعًا للتعاون التجاري بين البلدين، مثل تسويق الغاز الروسي عبر تركيا والشعبية القياسية للمنتجات التركية في روسيا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إغلاق الأجواء الأمريكية والأوربية أمام المواطنين الروس سيجعل من الممكن لتركيا أن تكون الوجهة الرئيسية لجزء كبير مما يقارب عشرة ملايين سائح روسي كانوا يقضون إجازتهم في أوربا كل عام. وكذلك فإن إزالة العديد من البنوك الروسية، وخاصة البنك المركزي الروسي، وإخراجه من نظام SWIFT وتجميد بعض الأصول المالية سبب لجوء العديد من الشركات الروسية إلى تركيا وسوف يؤدي هذا الأمر إلى أن تصبح تركيا مركزا جاذبا من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة وأحد المراكز المهمة في سلسلة التوريد.

ربما يكون أهم عنصر في العقوبات المفروضة على روسيا بالنسبة لأوربا هو التخلص من الاعتماد على الغاز الطبيعي والنفط الروسيين. في هذا الصدد، ستكون تركيا دولة فعالة والمركز الأمثل (مركز توزيع الطاقة) بخطوط الأنابيب البديلة. وهذا هو الدافع الرئيسي لزيارتي إسرائيل واليونان لتركيا. نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوربا عبر تركيا والجمهورية التركية بشمال قبرص، بالإضافة إلى عقد مؤتمر -كما هو مقترح تركيا- حول حقوق تركيا في موارد الهيدروكربونات في شرق البحر الأبيض المتوسط، ​​سيصبح ضرورة ملحة لحل كل هذه القضايا.

في الوقت نفسه، سيكون من الممكن تفعيل النفط العراقي لتنويع مصادر الطاقة الأوربية من خلال خطوط الأنابيب التركية، التي لديها بالفعل بنية تحتية. بالإضافة إلى ذلك، فشل مشروع طريق الحزام، الذي انطلق بمهمة توحيد بكين ولندن، المسمى الحزام الشمالي عبر سيبيريا، بسبب الحرب الأوكرانية الروسية. ويبقى البديل الوحيد للوصول إلى المحيط الأطلسي اتجاه الحزام الأوسط، الذي يمر عبر أذربيجان وتركيا. وسوف تتحول تركيا إلى مركز لوجستي فريد من نوعه. في الوقت نفسه، سيكون للمشاريع المختلفة مثل مشروع تناب، الذي تم بناؤه ضمن مشروع ممر الغاز الجنوبي مساهمة إيجابية في الاقتصاد الجغرافي لتركيا.

في ليبيا وسوريا

ولعل أكبر مكسب لتركيا هو ما ستحققه في ليبيا وسوريا، حيث تتصادم أحيانًا مع روسيا وتتعاون معها أحيانا. وكما هو معلوم، فقد حدثت تطورات مثيرة للاهتمام في ليبيا مؤخرًا. فإعلان فتحي باشاغا رئيسًا للوزراء في منطقة طبرق وبنغازي التي يهيمن عليها حفتر المدعوم من روسيا، والنقاش التدريجي حول سلطة عبد الحميد دبيبة، رئيس وزراء حكومة طرابلس، التي تعتبر الحكومة الشرعية الوحيدة لدى الأمم المتحدة. بينما تلتزم الأطراف الدولية، وخاصة تركيا، بالصمت حيال التغيير في الوضع الراهن، وإن إقصاء روسيا عن العالم بأجمعه بسبب حرب أوكرانيا وانسحاب بعض المرتزقة الروس (فاغنر) من المنطقة للقتال في أوكرانيا يخلق جيوسياسية جديدة. بسبب الحرب الدائرة، أصبح من الواضح للحلف الأطلسي والاتحاد الأوربي أن تركيا هي القوة الوحيدة التي تقيد روسيا في العديد من المناطق الاستراتيجية على عكس سياسة فرنسا التي تفتح لها المجال. وهذا سيفتح مساحة ثمينة للغاية لتركيا في ليبيا وسيقدم مساهمة كبيرة في أمن واستقرار ليبيا. سيتم استبعاد روسيا من غرب الفرات الذي تسيطر عليه حاليا بسبب الاتفاق الضمني مع الولايات المتحدة، وستكون تركيا قادرة على خلق أرضية مواتية لإنهاء وجود حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في منبج وتل رفعت، اللذين يشكلان أكبر مشكلة لأمنها. استعادة منطقة ناغورنو كاراباخ بأكملها في أذربيجان، كانت إحدى نقاط التعاون والصراع مع روسيا، والوصول إلى اتفاق سلام نهائي مع أرمينيا، قد يسهل تفعيل ممر زانجيزور، الذي يعد ذا أهمية حيوية لتركيا لتصبح مركزًا لوجستيًّا.

الالتزامات التي تعهدت بها تركيا في إطار اتفاقية مونترو، رفعتها إلى موقع حاسم وأساسي في حرب أوكرانيا. ورغم ترددات الولايات المتحدة الأمريكية، لم تتنازل تركيا عن هذا الاتفاق ولم تسمح بمرور أربع سفن وأساطيل لروسيا في البحر المتوسط ​​بتحذير مسبق. وكذلك، في الحرب الجورجية الروسية عام 2008، لم تسمح تركيا بمرور السفن الأمريكية بالحق الذي منحته مونترو. مع العلم بأن تركيا لن تقدم أي تنازلات بشأن هذه الاتفاقية، وكانت روسيا قد أرست بالفعل سفنًا حربية مهمة في قاعدتها قبل الحرب بفترة طويلة، والولايات المتحدة التي ليست دولة مشاطئة، لم تقم بأي خطوات أو تحرك أو مطالب من شأنها أن تجبر تركيا على تطبيق هذه الاتفاقية.

لقد حظيت تركيا بسبب هذا الموقف الجدير بالثقة والمخلص للاتفاقيات الدولية بتقدير جميع الدول الأعضاء في الناتو. من ناحية أخرى، تعد اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعتها تركيا مع الدول المشاطئة عام 1987 أكبر ضمان لأمن البحر الأسود. حتى لو كان الساحل الشمالي للبحر الأسود بأكمله تحت السيطرة الروسية، فلن تتأثر تركيا بالتغيير في الوضع الراهن ولن تواجه أبدًا أي عائق قانوني أو سياسي من شأنه أن يضر بأنشطة التنقيب عن الغاز الطبيعي والحفر في منطقتها.

تركيا لن تتخلى عن أوكرانيا أو روسيا بعد سياسة خارجية نشطة ودبلوماسية مكوكية قائمة على المصالح الوطنية، ولن تهمل التوازنات الإقليمية والعالمية مع الدولتين الصديقتين المجاورتين للبحر الأسود. في هذه العملية، كانت تركيا في المقدمة بانتقادها للنظام الدولي، فمقولة إن “العالم أكبر من خمس دول”، التي عبّر عنها رئيسنا بصوت عالٍ سنوات طويلة في الأمم المتحدة اكتسبت مبررًا دوليًّا، وتدل على أن هذه المنظمة أصبحت هيكلا عفا عليه الزمن وأنها عاجزة عن إدانة روسيا في مجلس الأمن التابع لها. وصل الحال إلى درجة أن جميع المنظمات والمؤسسات الدولية التي أنشأتها الحرب الباردة، أصبحت اليوم مختلة وظيفيًّا. في واقع الأمر، كان أحد العوامل التي شجعت بوتين على هذا الهجوم هو عدم استجابة المجتمع الدولي للأزمة الجورجية عام 2008 وكذلك ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، إضافة إلى الخلل في هذه المؤسسات. ومما يدل على مصداقية السياسة الخارجية لتركيا في هذه القضايا، تعبير الرئيس أردوغان عن كل هذه الحقائق أمام الرأي العام العالمي. لهذا السبب صرحت أوكرانيا بأنها تود أن ترى تركيا وكذلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية من بين الدول الضامنة للاتفاق النهائي.

إعادة اكتشاف تركيا

وقد ازدادت الأهمية الجيوسياسية لتركيا باعتبارها أقدر قوة إقليمية على وقف إطلاق النار وإحلال السلام في الحرب الروسية الأوكرانية، وذلك من خلال العلاقات الخاصة والعميقة التي أسستها مع كلا الفاعلين، ومن هنا أعاد الناتو والولايات المتحدة اكتشاف أن تركيا حليف مهم لهما، وبدأ الاتحاد الأوربي اتخاذ إجراءات لتسريع عضويتها فيه. وهكذا بدأ جميع الأطراف يقرّون بأنها الجهة الفاعلة التي لا غنى عنها في شرق البحر الأبيض المتوسط.

ومع ذلك، تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها تحويل تركيا الجديدة إلى “دولة هامشية” وسلبية في البنية الأمنية، وتريدها أن تتخلى عن جميع مطالبات السيادة والاستقلال وأن تبقى مستعمرة، تنتج سياسات لمصالح الحلفاء فقط بدلًا من حماية مصالحها الوطنية. تحاول إعادة تأسيسها من خلال المنظمات الإرهابية، وينبغي بالتأكيد ألا نتجاهل حقيقة أنه أمريكا لن تتخلى بسهولة عن رغبتها في إعادة ترتيب تركيا مرارًا وتكرارًا من خلال المنظمات الإرهابية. وفي هذا السياق، قال رئيس الصناعات الدفاعية إسماعيل دمير: إن مشروع F-35 وطلب شراء باتريوت قد تركناه وراءنا الآن. وسوف نستمر في طريقنا بالاعتماد على منتجاتنا ذات القيمة العالية. إن الصراعات التي حصلت في المناطق المسكونة عام 2015، ومحاولة بدء الحرب الأهلية في 15 يوليو عام 2016، والتطورات الأخرى بعد ذلك تشكل أسبابًا كافية لإثبات أن اليد الغربية الممتدة إلى تركيا في ظل الظروف الحالية ليست آمنة تمامًا. ينبغي لتركيا ألا تلعب السيناريوهات التي كتبها الآخرون، ويجب أن تعزز مكانتها وكونها دولة وسيطة ومركزية في الدبلوماسية، وعليها المثابرة والإصرار على تعطيل المؤامرات التي تحاك ضدها وإعداد لعبتها الخاصة باستخدامها القوة اللينة أو القوة الصلبة عند الضرورة.

المصدر : الجزيرة مباشر