ما بعد أوكرانيا (3) مسارات الصراع والتعاون الدولي

بوتين

تمثل مسارات الصراع والتعاون الدولي، الجانب الحركي من بنية النسق الدولي الدولي، حيث تشكل مجموعة من الأنشطة المتعاقبة المترابطة التي تقوم بها الوحدات الدولية لتحقيق أهدافها في إطار قواعد معينة. ويتضمن النسق الدولي مجموعة ضخمة من العمليات الدولية التي تختلف من حيث ماهيتها، ومركزيتها، والتي تتراوح بين أقصي أشكال التعاون إلى أقصى أشكال الصراع، وبناء على التداعيات التي أفرزتها الحرب الروسية ـ الأوكرانية، تبرز عدة مسارات مستقبلية لأنماط العمليات الدولية، ومسارات الصراع والتعاون الدولي في مرحلة ما بعد الأزمة، ومن بين هذه المسارات:

من شأن تداعيات الأزمة الأوكرانية أن تدفع لتعزيز التعاون بين جانبي الأطلسي وتعزيز الشراكة الأورـ أمريكية

عمل الغرب بشقيه (الأوربي والأمريكي) على توظيف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، واستفاد منه جماعياً على عدة مستويات؛ منها:

(1) تذكير طرفي الأطلسي بأهدافهما المشتركة: فقد ساعدت العملية الروسية في أوكرانيا على تذكير الولايات المتحدة وأوربا بأهدافهما العالمية المشتركة، وبلورة هذه الأهداف مجدداً في إطار إعلاء القيم الديمقراطية، التي مثَّل التدخل الروسي تحدياً لها؛ ما كان حافزاً لمظاهر عدة من التضامن بين القوى الغربية والدولية. وجاء في إطار ذلك موافقة ألمانيا على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتعهُّد اليابان بقبول اللاجئين الأوكرانيين، وتحرُّك بريطانيا لإخضاع ثروات المغتربين من الأوليغاركية الروسية لرقابة جادة. وعملت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب لفرض عقوبات متصاعدة على روسيا.

(2) تحفيز الغرب على حماية قواعد النظام الدولي: كان التدخُّل سبباً كذلك لتحفيز الغرب، وبشكل فعَّال، على الدفاع عن قواعد وقيم ومؤسَّسات نظام الحرب العالمية الثانية، التي عرَّف “بوتين” نفسه بأنه معارض لها؛ ذلك أن التدخُّل الروسي مثَّل تحدياً لنظام الأمم المتحدة التي يقوم ميثاقها على احترام السيادة، وتحدياً لأوربا التي يسعى “بوتين” إلى إعادة ترسيم حدودها، وتهديداً لحكم القانون.

(3) اتجاه “الناتو” نحو تعزيز جناحه الشرقي: فتدخل روسيا في أوكرانيا دفع الحلف إلى الاتجاه نحو تقوية جناحه الشرقي؛ ونظراً إلى أن تدخل “بوتين” في دولة مستقلة ذات سيادة لم يكن متخيلاً من قبل؛ ومع توقع تحول مركز الأزمة مستقبلاً من أوكرانيا إلى دول البلطيق، وكذلك إلى بولندا والدول الأخرى التي ستشكل الحدود الجديدة للغرب في مواجهة روسيا، فسيمثل ذلك حافزاً للولايات المتحدة وحلفائها في “الناتو” على إرسال المزيد من القوات والمزيد من المعدات إلى تلك الدول الواقعة على خط المواجهة.

(4) التضامن لتوثيق “جرائم الحرب” المحتملة: حيث أطلقت إدارة “جو بايدن” حملة جديدة لتوثيق “جرائم الحرب” المحتملة التي ارتكبتها القوات الروسية التي دخلت أوكرانيا، ونجحت في إطار ذلك من تحقيق التوافق بين 45 دولة من أصل 57 دولة عضو في “منظمة الأمن والتعاون في أوربا (OSCE)” ضد روسيا وحليفتها بيلاروسيا، عندما تمت الموافقة، في 3 مارس، على خطط لإرسال فريق من خبراء المنظمة لتوثيق جرائم الحرب المحتملة. وهذا العدد الكبير يمثل توافقاً لم يسبقه مثيل؛ فعدد الدول التي دعمت إنشاء هذه الآلية بعد الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في بيلاروسيا في أغسطس عام 2020 كانت 17 دولة، ومثَّل ذلك حينها توافقاً كان هو الأكبر، ومن ثم فإن الانتقال من 17 إلى 45 يوضح مدى انعزال روسيا وبيلاروسيا على المسرح الدولي.

(5) ذهب كريس جيبسون إلى أن البحر المتوسط بات مسرحا لتفاعلات القوتين المنافستين للولايات المتحدة؛ الصين وروسيا، وأن ملامح ذلك ازدادت تعقيدا بالنظر لسعي القوى الإقليمية (تركيا، مصر، إسرائيل) لبناء علاقات مع هذه القوى المنافسة للولايات المتحدة، ورغم ذلك فإن توجيه مزيد من الموارد للبحر المتوسط ليس من أولويات الولايات المتحدة، التي يراها في حاجة لتطوير استراتيجيتها بالنظر لعدم قدرتها على التواجد في كل مكان كل الوقت، لذلك اقترح جيبسون التركيز على تنمية حلفاء الولايات المتحدة وتنشيط “الناتو” لتحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي.

(6) تعزيز المنظومة الأمنية الأوربية: فقد كشفت الحرب في أوكرانيا أن تحمُّل أوربا مسؤولية أكبر عن أمنها ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل ممكن أيضًا. لقد كانت الحرب بمثابة جرس إنذار للأوروبيين الذين اعتقدوا أن نشوب حرب كبيرة في قارتهم أصبح مستحيلًا بسبب القواعد ضد الغزو والمؤسسات الدولية والاعتماد الاقتصادي المتبادل والضمانات الأمنية الأمريكية، إن تصرفات روسيا هي تذكير بأن القوة التي لا تُقهر لا تزال شديدة الأهمية، وأن دور أوربا الذي تنسبه لنفسها باعتبارها «قوة مدنية» ليس كافيًا. واستجابت الحكومات الأوربية بقوة، مما يدحض التنبؤات بأن التنافر الاستراتيجي داخل أوربا قد يمنع القارة من الاستجابة على نحو فعَّال للتهديد المشترك.

إن أوربا يمكنها التعامل مع التهديد الروسي المستقبلي بمفردها، ولدى أعضاء الناتو الأوروبيين إمكانات قوة كامنة تفوق التهديد الذي يواجه شرقهم، ولديهم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد سكان روسيا وأكثر من 10 أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي. وحتى قبل الحرب، كان الأعضاء الأوروبيون في الناتو ينفقون بين ثلاثة وأربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على الدفاع كل عام. ومع الكشف عن قدرات روسيا الحقيقية، يجب أن تزداد الثقة في قدرة أوربا على الدفاع عن نفسها زيادة كبيرة. لذلك تُعد الحرب في أوكرانيا لحظة مثالية للتحرُّك نحو تقسيم جديد للعمل بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيون، لحظة تكرِّس فيها الولايات المتحدة اهتمامها لآسيا بينما يتحمل الشركاء الأوروبيون المسؤولية الأساسية للدفاع عن أنفسهم، لذا يجب على الولايات المتحدة التخلي عن معارضتها الطويلة الأمد للاستقلال الأوربي، ومساعدة شركائها على تحديث قواتهم. وأن يكون القائد الأعلى لحلف الناتو القادم جنرالًا أوروبيًّا، ويجب على قادة الولايات المتحدة ألا ينظروا إلى دورهم في الناتو على أنهم أول المستجيبين، ولكن باعتبارهم خط الدفاع الأخير.

مع لزوم تسليم مسؤولية أمن أوربا إلى الأوربيين تدريجيًّا، وعلى المدى الطويل، ستسعى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي أيضًا إلى بناء نظام أمني أوروبي قد لا يستبعد روسيا – لتعزيز الاستقرار في أوربا ولإبعاد موسكو عن الاعتماد المتزايد على الصين. وينتظر هذا التطور وجود قيادة جديدة في موسكو.

مع انشغالها بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا لم تتجاهل الولايات المتحدة التهديد الصيني في المحيطين الهندي والهادئ

ففي الحادي عشر من فبراير 2022، أصدرت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتؤكد الاستراتيجية، التزام أمريكا تجاه شركائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتحدد الخطوات اللازمة لزيادة المشاركة في المنطقة وتعزيز التعاون. وجاء في بيان حقائق للبيت الأبيض حول الاستراتيجية إن “منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي المنطقة الأكثر حيوية في العالم، ومستقبلها يؤثر على الناس في كل مكان”، وتشكل رؤية الرئيس بايدن لترسيخ الولايات المتحدة بقوة أكبر في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتقوية المنطقة في هذه العملية”، وبموجب الاستراتيجية، تقوم الولايات المتحدة بتبني عدد من السياسات:

(أ) دعم حرية وانفتاح منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال الاستثمار في المؤسسات الديمقراطية والصحافة الحرة والمجتمع المدني النشط. وتشمل الجهود تعزيز النهج المشترك للتكنولوجيات المهمة والناشئة ودعم القانون الدولي في الجو والبحر.

(ب) الحفاظ على التواصل والترابط من خلال تعزيز التحالفات والشراكات التي أطلقت بموجب المعاهدات وتمكين رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).

(ج) تعزيز التجارة الحرة والعادلة والمفتوحة لزيادة الازدهار والرخاء ودعم تطوير البنية التحتية، مع إعادة بناء سلاسل التوريد وتوسيع نطاق الفرص الاقتصادية.

(د) تعزيز الأمن من خلال تعميق التعاون والعمل التوافقي مع الحلفاء والشركاء لردع العدوان والإكراه. وسيسمح الابتكار بالتصدي السريع للتهديدات في الفضاء، والفضاء السيبراني، والمجالات التي تنطوي على التكنولوجيا المهمة والناشئة.

(ه) العمل مع الشركاء لتعزيز القدرة على الصمود والتكيف في مواجهة التهديدات العابرة للأوطان للمناخ والصحة العالمية، من خلال وضع أهداف للحد من زيادة درجة الحرارة العالمية، والحد من التعرض لتأثيرات المناخ، وتعزيز الأمن الصحي العالمي.

وفي إطار هذه التوجهات وتلك السياسات يمكن القول إن حرب روسيا في أوكرانيا ستُغيِّر التصورات الجيوسياسية أكبر بكثير من تغييرها للواقع الجيوسياسي، وفي حين أن روسيا تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين تُشكل تحديًا قصير المدى، ستظل الصين تمثل التهديد الكبير على المديين المتوسط والطويل، فالتهديد القادم من الصين جذري، لأن الصين تعمل على تضييق فجوة القوة مع الولايات المتحدة، وستحاول الصين التصرف باعتبارها دولة أكثر مسؤولية حتى في الوقت الذي تتقرب فيه من روسيا، وقد تؤكد الصين أنها ليست دولة خارجة عن القانون مثل روسيا بينما تضاعف من جهودها في إنشاء مجال نفوذ من خلال الإكراه غير العسكري، كما تفعل في الواقع.

وفي الوقت الذي يجب أن تعطي فيه الولايات المتحدة الأولوية لمواجهة الصين، يجب كذلك أن تهتم بالجبهة الأوربية، في مواجهة محاولة روسيا إعادة إنشاء دائرة نفوذها من خلال استخدام القوة، وليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى مواجهتها بالقوة. وحتى أوربا، التي حاولت الابتعاد خلال السنوات الماضية عن الولايات المتحدة، أعادت اكتشاف حقيقة أن قوة الولايات المتحدة لا يمكن الاستغناء عنها.

وإذا كانت الولايات المتحدة لا تملك حالياً القدرات العملياتية لالتزام كامل طويل الأمد بقضيتين كبيرتين في مواجهة روسيا والصين، فإن الواقع الجيوسياسي يفرض عليها ذلك، ولن يكون أمام حلفائها وشركائها على جبهتي أوربا والهند والمحيط الهادئ خيار سوى إلزام أنفسهم بنشاط أكبر في إدارة هاتين القضيتين. وخاصة في ظل وجود دعم مشترك بين الصين وروسيا لإعادة رسم الخرائط الإقليمية وإعادة كتابة قواعد النظام الدولي بدلًا من العمل على كسب النفوذ من داخل المؤسسات القائمة.

وإذا كانت واشنطن تواجه الآن تحدياتٍ صينية وروسية، فإنه يجب عليها بالضرورة تمكين حلفائها وتجديد ترتيبات تقاسم الأعباء في آسيا وأوربا، واستراتيجية إدارة بايدن الكبرى تساعد على القيام بالأمرين، من خلال تركيزها الخاص على بناء العمل الشبكي للشراكات المرنة والمؤسسات والتحالفات ومجموعات الدول. حيث طوَّرت الولايات المتحدة تشكيلات (خمسة – أربعة – ثلاثة – اثنان) في آسيا بدأت من تعزيز التحالف الاستخباراتي «خمسة أعين» إلى نشر الحوار الأمني الرباعي، وتوقيع الاتفاقية الأمنية الثلاثية «أوكوس» ثم تعزيز التحالفات العسكرية الثنائية تعزيزاً للعمل الشبكي لإدارة بايدن في آسيا.

وإذا كانت الأطراف الآسيوية والأوربية لا تستطيع تحقيق التوازن في مواجهة الصين وروسيا بمفردها في المستقبل المنظور، فإنها تساعد في تعزيز الدعم السياسي المحلي للولايات المتحدة من أجل استمرار الالتزام العسكري في المنطقتين. ومن خلال تعزيز دور أكبر لحلفائها وزيادة تفعيل موقفهم السياسي، يمكن لواشنطن بناء توازناتٍ إقليمية دائمة للقوى في آسيا وأوربا، مدعومةً بالقوة العسكرية الأمريكية. وهذا قد يجبر بكين وموسكو على تبنِّي نهج أكثر منطقية مع جيرانهما.

 

المصدر : الجزيرة مباشر