العسكري الأسود.. فرقة هدم الإنسان وحلاوة الروح

 

قدم الأديب المصري يوسف إدريس روايته الشهيرة العسكري الأسود عن شاويش التعذيب في السجون المصرية في العهد الملكي وصدرت الرواية في عام 1961، وأثارت ضجة كبيرة حين صدورها، ولا تزال تُحدث صخبا ويتم تداولها والنقاش بشأنها في منتديات كثيرة، ويمكن وصفها بالرواية العابرة للأزمنة، فهي رواية الاستبداد والقهر الذي يتم عبر العصور للمعتقلين في القضايا السياسية، وتصور التعذيب الذي يتعرضون له في السجون ليخرج السياسي وخاصة المؤهلين للقيادة يعيشون الحياة مجرد حلاوة روح.

حلاوة روح أحمد فؤاد درويش

قدم المخرج السينمائي أحمد فؤاد درويش رواية العسكري الأسود في فيلم سينمائي بعنوان (حلاوة روح) عام 1991، وذلك بعد ثلاثين عاما من صدورها.
وقد أثار الفيلم نفس ضجة الرواية حين صدورها، ولم يستمر عرض الفيلم طويلا حتى أصدرت الرقابة قرارا بمنعه من العرض، واستمر المنع حتى الآن بقرار حسني مبارك الصادر عام 1991.
ولا نستطيع أن نكتشف السر وراء هذا المنع (يعرض الفيلم على بعض مواقع اليوتيوب الآن).
فالقصة الأصلية تدور أحداثها في نهاية الأربعينيات، بعد حادث اغتيال النقراشي باشا، خلال حكومة إبراهيم عبدالهادي في العهد الملكي، بينما كان الصدور الأول للرواية في العهد الناصري، وإن كان الفيلم الذي كتب له السيناريو والحوار المخرج قد حاول دمج ملامح عصور مصرية مختلفة، إلا أن سر منعه صار غامضاً، سوى أن نطبق المثل الشعبي المصري (اللي على راسه بطحة!).

فرقة هدم الإنسان

تبدأ أحداث فيلم حلاوة الروح باجتماع للقيادات العليا لجهاز البوليس السياسي في محاولة لكسر قوة الحركة الطلابية في الجامعة، ويتم تكليف اللواء (همت) بتنفيذ أفكار اللواء (أفكار) الخاصة بكسر قيادات الثوار وتكوين فرقة من رجال الشرطة يقودهم عباس الزنفلي (العسكري الأسود) الشهير بغلظته وفحولته، ويطلب من عباس تكوين فرقة من أمثاله تكون مهمتها هدم الإنسان من الداخل وهدم الثوار نفسيا بكسرهم أمام أنفسهم وأهاليهم.

ينتقل السيناريو الذي يتأرجح بين الماضي والحاضر ليقدم لنا (شوقي) بطل الفيلم، وهو طبيب انتهازي يتلقف أي فرصه للحصول على المال والسرقة، لنكتشف من خلال صديقه الذي يزوره أنه أحد قيادات الحركة الطلابية في أعوام ما قبل يوليو 1952، ويبدأ الفيلم في سرد هذا التحول في شخصية الطبيب، من خلال استخدام خاصية التذكر (الفلاش باك بلغة السينما).

قدم أحمد فؤاد درويش للسينما الروائية فيلمين فقط، هما (حلاوة روح) وفيلم آخر بعنوان (إعدام طالب ثانوي) إنتاج 1983، وهناك خط يربط بين الفيلمين وهو المرض النفسي، ففي حلاوة روح هناك أزمة نفسية عميقة لدى (شوقي) البطل الذي لعب دوره، الممثل المهم في تاريخ السينما محيي إسماعيل، وهو نفسه بطل فيلم (إعدام طالب ثانوي).

الشخصية الآخرى التي تعاني أزمة نفسية كبيرة في فيلم حلاوة روح هو (عباس الزنفلي) العسكري الأسود ولعب دوره الممثل أحمد ماهر الذي يعاني من جرائمه ضد المعتقليين السياسيين، فيفقد روحه، ثم قوته وفحولته في بيته، ويتحول في النهاية إلى ذئب بشري يأكل نفسه بعد أن توقف عن أكل لحم البشر في مشهد كتبه يوسف إدريس بإبداع حين تحول عباس إلى ما يشبه الذئب في عوائه والكلب في هبهبته لينطبق عليه مقولة إحدى الجيران “لحم الناس يا بنتي اللي يدوقه (يذوقه) ما يسلاه (يبطله) يفضل يعض إن شالله ما يلقاش إلا لحمه يأكله”.

يعتبر يوسف إدريس مؤلف رواية العسكري الأسود المأخوذ عنها الفيلم أحد أهم كتاب القصة القصيرة في مصر ولُقب بتشيكوف (نسبة إلى القاص الروسي أنطون تشيكوف أحد أهم كتاب القصة القصيرة في العالم) ورغم زخم إنتاج إدريس إلا أن السينما المصرية لم تقدم له سوى أحد عشر فيلما فقط من أشهرها: الحرام، لا وقت للحب، النداهة، العيب، عنبر الموت، العسكري شبراوي، وعلى ورق سوليفان، فهل لم يكتشف السينمائيون يوسف إدريس طوال هذه السنوات، أم إن هناك سرًا وراء هذا العدد الضئيل من الإنتاج السينمائي لإبداع إدريس.

لقاء الضحية بالجلاد

رحلة قصيرة من المركز الطبي يقوم بها الطبيب النفسي بالمركز مع صديقه شوقي (المعتقل السياسي السابق) المهزوم نفسيا وروحيا نتيجة فرقة هدم الإنسان إلى منزل عباس الزنفلي (قائد فرقة الهدم) الشاويش الذي طال مرضه ويعرض على الكومسيون الطبي لتحديد مدى صلاحيته للاستمرار في العمل، يرافق الأطباء (نور) زوجة الزنفلي والممرض عبدالله ابن قريته، وخلال الرحلة يتم سرد الرواية ما بين الرباعي، يتذكر الطبيب (شوقي) أيام نضاله ودخوله المعتقل، والتعذيب على يد الزنفلي، الذي قتل روحه وحوله إلى أنسان يعيش (حلاوة روح)، بينما يتذكر صديقه كيف كان هذا الميت بالحياة نابغا قويا ومتفوقا، صاحب ابتسامة لا تفارقه، ويدافع عن الناس والفقراء ويسعى للأفضل، بينما تسرد نور تحولات عباس الذي كان ما أن يبقى وحيدا حتى يتحول إلى إنسان أخر يتكور في ذاته، تطارده الكوابيس حتي تحول إلى شخص حيواني، وذات ليلة غرس أصابعه في جسدها كأنه ذئب.

تصل الرحلة إلى حجرة العسكري الأسود الذي يعوي كالذئب وينظر إليه ضحيته، وهو التائه عن الحياة يتكور وينتفض كالحيوان ويعوي ويصدر أصواتا تشبه أصوات الكلاب، وينفجر (شوقي) فيه: أين كرباجك، أين كلابك، أين حذاءك الحديدي، بص لي، مش فاكر العنبر، فين كفك؟ فين صوابعك؟، مش فاكر الساعة خمسة؟، أنا ها أفكرك.. ثم يخلع شوقي قميصه لنرى أثار التعذيب الحيواني على كل قطعه من جسده.

يتحول الزنفلي إلى شكل الحيوان يبدأ في نبش لحم زوجته، ثم في لحمه هو نفسه لنصل للنهاية (لم يجد لحم الناس، فبدأ يأكل لحمه).

يبقي العمل السينمائي حلاوة روح المأخوذ عن رواية العسكري الأسود عابرا للزمن كما الرواية ورغم عدم شهرته التي حققتها الرواية الأصلية إلا أنه عمل سينمائي فريد كما رواية إدريس، فمعا يناقشا القمع والتعذيب في السجون، وكيف يتحول بعض البشر في أعمالهم الغير مشروعة وضد الإنسانية إلى حيوانات مفترسة، تحت ادعاءات باطلة من عينة (الدفاع عن الوطن) و(الأفكار الهدامة) و(هدم السلم الاجتماعي، وفي حقيقة الأمر أنهم يهدمون الوطن والإنسان الذي هو الوطن ذاته، ومن ينفذ من هذه الحالات فقد نجا بنفسه نجاة كبيرة مستندا إلى قوة الإيمان وقوة النفس.

ملاحظة أخيرة: لا وجه لإقامة الدعوى

قصة العسكري الأسود الحقيقية وقعت أحداثها بين عامي 1947و 1948، وقدم العسكري الأسود للمحاكمة كشاهد على أحداث التعذيب، حيث كان منفذا للأوامر، وبعد التحقيق والقضية التي أثارتها صحيفة (الجمهور المصري) عام 1951، حكمت المحكمة بإغلاق ملف القضية حيث (لا وجه لإقامة الدعوى، فقد عجز المدعين عن إقامة الدليل على ما ادعوا به.

المصدر : الجزيرة مباشر