نداء من أجل التوقف عن احتقار عقولنا

قراءة في كتاب “العصى الغليظة.. صناعة الكذب وفلسفة الهزيمة في الحرب الهجينة.. روسيا وأوكرانيا نموذجاً”

زيلينسكي

 

كان إعلان الرئيس الروسي مباشرة عملية عسكرية خاصة زلزال أعادنا في الذاكرة إلى عقدين من الزمن، عندما أعلن الرئيس جورج دبليو بوش “الحرب على الإرهاب”… يومها رفضت كبريات الصحف أن تنشر مقالات مثقفين نقديين كبار، لأن المطلوب هو رواية قصة رسمية واحدة… استدعي للتحقيق أكثر من قيادي في منظمات حقوقية وإنسانية دولية بتهمة التواطؤ مع “الإرهاب”. جرى مسح ألوان الطيف وصار العالم أبيض أو أسود، خير وشر.

كيف بعد عشرين عاما، وبعد الهزائم المفضوحة لمن خاض هذه الحرب، أن يعود العالم إلى “عقوبة” تحريم التأمل، وتكفير النقد، وتجريم محاولة رؤية ما وراء وسائل “البروباغندا” التي تفرض بالقوة على الإعلام والناس لباسا موحدا وخطابا موحدا يعتبر كل خارج عنه بعيرا معبدا، أي بعيرا مصابا بالجرب من الضروري إبعاده عن القطيع. والأنكى في كل ذلك أن يجري هذا باسم الدفاع عن الديمقراطية؟

الذين شاركوا في هذا الكتاب، سبق وناضلوا ضد ما أصبح معروفا باسم “الخسائر الجانبية” للحرب على الإرهاب، ورفضوا دكتاتورية الخطاب، من هنا بادروا لجمع كل كبيرة وصغيرة من أجل عمل يتمكنون عبره من اختراق جدران صناعة الأكاذيب، وتقديم صورة أخرى تنطلق من الوضع  البشري كما هو، لا كما جرى عرضه في مراكز البحث “الرصينة” والصحف “المحترمة”. فأية استنتاجات أو رؤى لا تعتمد الوقائع الفعلية، تعطي تشخيصا لا علاقة له بالحقائق الميدانية الملموسة، وتخلق عالما فصاميا يزيد الأزمات تفاقما عوضا عن السعي العقلاني لحلها.

تفكيك إيديولوجية المحافظين:

يبدأ الكتاب بتفكيك “إيديولوجية” المحافظين الجدد التي توالدت منذ حقبة الرئيس ريغان وأصبحت معينا لكل سياسيات “الأمن القومي الأمريكي”، والدولة الأمريكية العميقة. ويصف كيف أن سقوط معسكر وارسو لم يكن نتيجة مواجهة عسكرية مع الناتو أو الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك صادرت مراكز البحث الأمريكية الحدث لتعلن “انتصار الأنموذج الليبرالي” ونهاية التاريخ (فوكوياما) وتروّج لإطروحة صراع الحضارات (هنتغتون) في محاولة إعادة تدوين حقبة ما بعد سقوط جدار برلين ومحاولات المدرستين النيوالليبرالية والمحافظة الجديدة، شرعنة نظام دولي أحادي القيادة، وفبركة العدو الضروري في كل حدث ومناسبة، من الحرب على الإسلام والإرهاب إلى شيطنة كل ما هو روسي.

حتى لا تبقى الرؤية نظرية مجردة، تناول الكتاب محورا هاما يناقش حلف شمالي الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوربي. خاصة بعد 1991، وتبني الإدارة الأمريكية لفكرة توسيع الناتو كأداة سياسية واقتصادية وعسكرية للهيمنة العالمية، مع بروز اتجاهات عدة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، أهمها التيار الأطلسي، الذي اعتبر الفرصة ملائمة لأن يكون الحلف قوة توحيد وجمع لمكوناته، تحت قيادة أمريكية، تشكل قوة التدخل الأكبر في مختلف مناطق التوتر من جهة، والجبهة المتضامنة في مواجهة أي محاولات تؤثر على الخارطة الجيو سياسية التي تبعت انهيار الاتحاد السوفييتي وسمحت بقيام نظام القطب الواحد. يتناول المقاومات الأوربية لهكذا هيمنة/تبعية للقارة الأوربية للولايات المتحدة الأمريكية، بشكل خاص داخل فرنسا وألمانيا، الرافضتين للذوبان في محيط يهمش بالضرورة كلا البلدين، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. كيف استثمرت الإدارة الأمريكية عبر الحرب الأوكرانية في ضرب التوجهات الاستقلالية لأوربا؟ ولكن أيضا هشاشة هذا التحالف الذي يطلب من الأوربيين “الطاعة والإنصياع” لسياسة الشقيقة “الكبرى”. ويوضح كيف، عبر الأشهر الأولى، كان من الممنوع على الأوربيين أن يقولوا لا، ولكنه يتوقع الوصول إلى نقاط خلاف جوهرية ولو أن بعض بلدان أوربا الشرقية أصبحت “أكثر ملكية من الملك”.. ثمة أيضا رصد دقيق لعلاقة الناتو بالحكومات الأوكرانية المتعاقبة.. وكيف كانت سفيرة الولايات المتحدة في الناتو ثم وكيلة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أوراسيا وأوكرانيا، فكتوريا نولاند، تتدخل لتعيين أو إبعاد وزير، أو ضابط في الجيش الأوكراني. وتوزع المساعدات السخية على الأطراف المدنية القابلة للتطويع. في نفس الوقت الذي كان الطرف الروسي يسعى لتعزيز نفوذه في الطبقتين السياسية والاقتصادية الأوكرانية وبشكل خاص في شرقي البلاد.

الجغرافيا السياسية

يستعيد الكتاب نشر دراسة “الجغرافيا السياسية والنظام العالمي الجديد” التي نشرت بالإنجليزية قبل ثماني سنوات، حول ضرورة إعادة النظر في أهمية الجغرافيا في بناء وإعادة هيكلة النظام العالمي الجديد. كتبت هذه الدراسة بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم وبدء الحرب في الدونباس من الباحث الأمريكي روبرت كابلان..

في بحر “التحليلات السريعة” وأشباه الدراسات حول الحرب في أوكرانيا، يحلل جنرال سابق في المخابرات العسكرية السويسرية، والعضو في فرق السلام للأمم المتحدة كذلك حلف شمالي الأطلسي كان في مهمة لمجلس الأمن والتعاون الأوربي في الدونباس، الأسباب والخيارات في أوكرانيا منذ اندلعت حرب الدونباس إلى اليوم، وما يجري فعلا على الأرض.، بدون بروباغندا ولا شعارات، في واحدة من أهم الدراسات العسكرية والجيو سياسية للحرب الأوكرانية ترجمت عن الفرنسية.

في دراسة تعود إلى بداية الحرب في أوكرانيا، حاول الفيلسوف التقدمي السلوفاكي نوفاي جيجيك تقديم قراءة نقدية في المواقف والأحكام المسبقة والتوترات التي شهدتها مختلف التيارات الفكرية والسياسية بعد ثلاثية (الميدان، ضم القرم، حرب الدوباس).. من المؤلم أن صوت هذا الفيلسوف الحكيم لم يتوقف عنده يومها أحد، لتعيد عدة نشريات أكاديمية نشر دراسته بعد ثماني سنوات. ويقوم فريق البحث والترجمة بنشرها في الكتاب.

يشبّه هيثم مناع الهزة الأرضية التي تعيشها المنظمات الشمالية لحقوق الإنسان بتلك التي تبعت أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي أضعفت الجبهة المدنية والحقوقية وزعزعت العديد من المنظمات الشمالية لحقوق الإنسان، التي استسلمت للعاصفة الهوجاء على الحقوق والحريات على الصعيد العالمي، ويفتح ملفات الانتقائية والتمييز والكيل بمكيالين على صعيد الدول الغربية وتأثير ذلك على هذه المنظمات ومصداقيتها. وكيف تتعرض المنظمات الحقوقية في الغرب اليوم، لضغوط هائلة تجبرها على خطاب محدد وموضوعات محددة من الضروري التركيز عليها، تحت طائلة محاسبتها عبر “التمويل الأوربي والأمريكي” لها.

للخروج من التضخيم الروسي لدور النازيين الجدد والإنكار الغربي لوجودهم، قدم الباحث نوري شيخموس دراسة تفصيلية حول نشأة وتمكين فوج من المتطوعين من النازيين الجدد، “كتيبة آزوف”، انتهى الأمر بها لتصبح القوة العسكرية الأهم في شرقي أوكرانيا.. مع تتبع للنشأة والتطور: التثقيف، التأهيل العسكري، التمويل، وصولا لبناء جسم مستقل داخل المؤسسة العسكرية الأوكرانية.

من أهم محاور الكتاب، المحور الخاص بالعقوبات الاقتصادية. يعود مناع إلى أصولها الحديثة قبل قرن، ودور العقوبات في اضطرابات، لم تغير في أنظمة الحكم التي استهدفت، وإنما الأزمات الاقتصادية العالمية من جهة، وفي الثمن الباهظ الذي تدفعه الشعوب، وليس الحكومات، من الإسهال المفرط في استخدام العقوبات كسلاح في الصراعات والحروب. ويعزز مناع وجهة نظره بدراسات لاقتصاديين أمريكيين (بيتر بينارت، إريك ساند وسوزان فريمان) وكذلك باحث صيني (كوي هنغ) وآخر، خبير اقتصادي روسي، سيرغي كلازييف، الذي عانى من ضغوط كبيرة ليس فقط من الغرب، ولكن أيضا من الأوليغارشية الروسية.

كل هذا الدم

في دراسته “الحرب المشهدية في أوكرانيا” يستعرض محرر الكتاب بعضا من مآسي المشهد الهزلية وكيف تصبح المواقف بمعايرر مختلفة حسب موقع الأشخاص والمؤسسات والدول، ولو كان ذلك يجري بشكل يثير الاشمئزاز:

“لن يمس الرئيس بايدن، شعرة من رأس الأوليغارشية الأوكرانية، التي وضعت ابنه هانتر في مجلس إدارة إحدى أكثر الشركات فسادا في أوكرانيا، وبالطبع لن يفعلها بوريس. ومن الصعب على الرئيس الأوكراني، مواجهة  الملياردير الإسرائيلي القبرصي الأوكراني إيهور كولومويسكي، الذي كان الممول الأساسي لفيلق آزوف، قبل أن يصبح أحد أهم ممولي حملة زيلينسكي الإنتخابية.. فعن أية نزاهة وشفافية يتحدثون؟؟ ولماذا الاستخفاف بعقولنا إلى هذه الدرجة؟ الحرب قذرة بالتعريف، ولكن من قذاراتها إخراج كل طفيليات المستنقع إلى السطح. يقرر الرئيس الأوكراني، خادم الشعب، حظر 11 حزبا سياسيا أوكرانيا معارضا، فلا نسمع اعتراضا واحدا أو حتى “عتاب خفيف اللهجة” من حماة الديمقراطية الأطلسيين الذين سبقوه بقوائم الحجب الإعلامية والرقابة، وأكثر من ذلك، في حملة شمولية (توتاليتارية) على كل ما هو روسي: الرياضي، النحات، الفنان، حتى تشايكوفسكي في قبره… كان الرئيس جورج دبليو بوش، قد وضع في إنجيل حروبه الخاسرة: “من ليس معنا فهو ضدنا”. لكن للأمانة والتاريخ، لم يوسع تعريفه ليشمل القبور والموتى!.”.
وكم من سؤال يرد على الخاطر يستفز الكتاب فيه عقولنا: هل هناك قوة بشرية قادرة على إعادة عظام الضحايا وهي رميم؟
أين سيكون أمين عام الناتو عندما تجري مناقشة مصير سبع ملايين أوكراني لجؤوا إلى أوربا الغربية (ومليون ونصف لروسيا)؟ أي ما يفوق عدد سكان بلده النرويج بثلاثة ملايين؟ إلى متى سيتحمل الأوربيون نتائج الحرب على اقتصاداتهم وحياتهم اليومية؟ ما هو سقف التضامن الغربي والروسي مع أزمة الغذاء والجوع في الدول الفقيرة؟ وهل من الضروري تحمل كل هذه المصائب، والعالم بحرب أو بدون حرب، قد بدأ منذ سنوات التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب؟ هل يمكن، قبل الحديث عن هزيمة بوتين أو زيلينسكي، أن يتقدم بعض البيروقراطيين غير المنتخبين في الاتحاد الأوربي والناتو باستقالتهم، بعد الجرائم التي ارتكبوها بحق السلام والاستقرار العالميين؟ أم أنهم سيغيرون خطاباتهم ومواقفهم، كما فعلوا في 24 فبراير 2022، وكأن شيئا لم يكن… ثمة مؤشرات تقول، بأن انسحاب الرئيس جو بايدن، من هذه المواجهة، لن يختلف كثيرا عن انسحابه من أفغانستان، بفارق بسيط، ادعاء النجاح باستعادة مواقع هامة، على صعيد تجارة السلاح، ومواقع أخرى في سوق الطاقة، مع بطاقة شكر للدم الأوكراني.

ينتهي الكتاب بجملة هامة، لم نكن بحاجة لكل هذا الهدم والدم والردم لقرائتها:

“لقد انتهى عصر “الانتصارات” العسكرية. ولن تتكرر احتفاليات “النصر” بعد اليوم، لأي مغامر يظن أن صواريخه العابرة للقارات، تكفي لتغيير خارطة العالم أو “موازين القوى” فيه، لأن السلاح الأمضى والأكثر نوعية، هو ذاك القادر على تحويل الكرة الأرضية إلى كوكب ميت، خالٍ من المؤرخين والصحفيين والمحتفلين بهكذا “نصر”.

لم يعد السلام أغنية شاعرية، بل الشرط الواجب الوجوب، لاستمرار الحياة على كوكبنا”.

المصدر : الجزيرة مباشر