سلامة (المصري) ونورمان (البريطاني).. أسوار السجن وفضاء الحرية!

بوريس جونسون

 

قبل نحو عام، نشر الكاتب الصحفي المصري عبد الناصر سلامة -رئيس تحرير صحيفة الأهرام الأسبق- مقالًا على صفحته بموقع فيسبوك، تحدّث فيه عن الفشل في إدارة ملفات مفصلية في الدولة، على رأسها أزمة السد الإثيوبي.

كان ذلك يوم الأحد 11 يوليو/تموز 2021، وبعد أسبوع واحد، في 18 يوليو، تم إلقاء القبض عليه، وفي اليوم التالي تقرر حبسه 15 يومًا، وهو في الحبس الاحتياطي منذ ذلك الوقت، مثل آخرين غيره من سياسيين وحزبيين وصحفيين وناشطين وشخصيات عامة، وبينهم من كانوا داعمين وقريبين من السلطة، ويمهدون الطريق لها، ويدافعون عنها، وهؤلاء يُمضون شهورًا وسنوات في حبس احتياطي في قضايا ذات خلفيات سياسية، أو تتعلق بنشر آراء، أو التعبير عن مواقف ترتبط بالشأن الجاري، والأداء العام للسلطة، ونتمنى خروجهم جميعًا إلى الحرية قبل انطلاق الحوار الوطني.

هذا في مصر، بينما هناك في بريطانيا يطلب النائب جيسي نورمان، ومعه 53 من نواب حزب المحافظين، سحب الثقة من رئيس الوزراء بوريس جونسون، وهو في الوقت نفسه رئيس حزب المحافظين.

انتهاك القرارات

هكذا مباشرة وصراحة، يريدون طرده من الحكومة والحزب، وهي ليست دعوة ولا التماسًا، بل طلب، فهو -من وجهة نظرهم- صار عبئًا على الحزب، وفاقدًا للثقة في القيام بواجبات ومهام وظيفته في خدمة الشعب بعد انتهاكه قرارات حكومته.

خطأ جونسون أنه لم يلتزم بقرارات الإغلاق خلال ذروة فيروس كورونا، وهي إجراءات اتخذتها حكومته، وقد تسربت معلومات بأنه حضر احتفالات بمقر الحكومة، وانتهك حظر التجمعات واللقاءات المفتوحة.

ولهذا، يتعرض لحملات هجوم عنيفة من عدد كبير من نواب حزبه (المحافظين)، وأحزاب ونواب المعارضة، والإعلام، بجانب تحقيقات الشرطة التي فرضت غرامة مالية عليه، وهي المرة الأولى في تاريخ بريطانيا التي يتعرض فيها رئيس حكومة في المنصب للعقوبة.

سحب الثقة

واعتذارات جونسون المتتالية، واعترافه بالخطأ، لم يمنع تحرك 54 من نواب حزبه لطلب سحب الثقة منه، وقد أفلت من السقوط، لكنه خرج مكسورًا، ويمكن القول إن العد التنازلي لتخليه -طوعًا أو كرهًا- عن السلطة قد بدأ، مثلما حدث مع رئيسة الحكومة السابقة تريزا ماي التي تعرضت لسحب الثقة في ديسمبر/كانون الأول 2018، ونجت أيضًا، ثم اضطرت إلى الاستقالة بعد ستة أشهر فقط، فالحُكم مثل إناء الحليب أو الماء الرائق، إذا تعكر لا يصبح صالحًا للشرب.

والحُكم التزام دستوري وقانوني وأخلاقي وأدبي، ورئيس سابق لحزب المحافظين قال إن رئاسة الوزراء هي المنصب العظيم في بريطانيا، وبالتالي من يتقلده لا بد أن يكون محافظًا على قيمة المنصب.

نورمان كان قاسيًا مع جونسون في تبريره لطلب سحب الثقة منه، إذ قال إن رئيس الوزراء صار رئيسًا في ثقافة الاعتياد على انتهاك القانون.

وهذه دروس في السياسة والحكم والديمقراطية من البلد الذي قاد إصلاحات سياسية مبكرة ينعم بنتائجها الشعب البريطاني، وهي طريقة الآمن للمستقبل المزدهر.

لا قداسة للمنصب العام

لا قداسة أو حصانة للمنصب العام في الديمقراطيات، وكبار المسؤولين ليسوا فوق النقد، بل هم الأكثر تعرضًا للنقد والرقابة والمحاسبة بسبب عِظم مناصبهم وأدوارهم في خدمة الشعب والحفاظ على الدستور والقانون والديمقراطية.

النائب نورمان منذ انضمامه إلى قائمة المطالبين بسحب الثقة في 6 يونيو/حزيران الجاري، ومعه زملاؤه النواب، ومن انضموا إليهم في التصويت ضد بقاء جونسون في الحكم، وعددهم 148 نائبًا، يمارسون حياتهم الطبيعية دون أي تغيير يُذكر عليها، وهم في أمان مطلق، وخارج التصور أن يتعرض أحدهم لانتقام رئيس الحكومة أو الأجهزة الأمنية والسياسية بإيعاز منه لمعارضتهم له، أما الاعتقال على خلفية سياسية، فهو مستبعد تمامًا في أعرق ديمقراطية بالعالم، وكل ديمقراطية جادة.

لا يعني أنك رئيس حكومة أن تنفرد بالسلطة، وتفعل ما يحلو لك، أو تكون محميًّا من نواب حزبك، بذريعة عدم تضرر صورة الحزب إذا تم تسليط الضوء على الأخطاء، ولمنع استثمار المعارضة ذلك لصالحها، أو أن من يعارضونك ويطالبون بإقالتك أو استقالتك هم متآمرون، وضد الدولة ويشوهون صورتها، الدولة شيء، والحاكم ونظامه شيء آخر، هذا الاندماج غير موجود سوى في أذهان وأنظمة الاستبداد.

الدولة والشعب أم الحاكم؟

مصالح الدولة وحقوق الشعب ورفاهيته، ثم شعبية وصورة الحزب الذي يحكم، الأهم والأبقى، وهي ليست دولة الحزب الواحد، ولا الفرد الحاكم الواحد، لهذا تخلّص حزب المحافظين من تريزا ماي في 2019، وخرج رؤساء حكومات محافظة وعمالية من الحكم، فلا تغطية على العجز في الإدارة، ولا ضرورة لبقاء رئيس الحكومة مدة طويلة، مهما كانت إنجازاته، وحدث ذلك مع مارغريت تاتشر وتوني بلير، وهما من أنجح رؤساء الحكومات.

رئيس الحكومة الحالي جونسون قاد المحافظين إلى فوز كبير في انتخابات عامة نهاية 2019، ونجح في الخروج من الاتحاد الأوربي، ثم مواجهة كورونا، واتخذ موقفًا صلبًا ضد روسيا في حربها على أوكرانيا.

مع هذا، قد يغادر (10 داوننغ ستريت) في أي وقت، عقابًا على انتهاك قرارات الحكومة التي يرأسها، وبسبب بعض السياسات الضريبية والاقتصادية، وقد تسهم انتخابات فرعية في دائرتين، يوم 23 يونيو الجاري، في التعجيل بالمغادرة، إذا خسرهما حزبه.

الديمقراطية صانعة النفوذ

بريطانيا كمساحة جغرافية، وعدد سكان الآن، أقل من عدد كبير من بلدان مستعمراتها السابقة، كما أنها ليست في مقدمة القوى الاقتصادية والتجارية والمالية العالمية، لكن نفوذها السياسي لا يزال هائلًا في العالم.

هذا النفوذ مستمَد من نمط الحكم الديمقراطي قبل أن يكون مصدره قوة اقتصادية وقدرات عسكرية وتقدمًا علميًّا وبحثيًّا وتكنولوجيًّا وثقافيًّا وفكريًّا وفنيًّا، هذه كلها عوامل مهمّة في سلّم التطور الحضاري، إنما قيم الحريات والحقوق والحكم الرشيد هي التي توفر للدول مناعة داخلية، وتمنحها تأثيرًا خارجيًّا، ومكانة عظيمة.

مثلاً، قدرات الصين أكبر بكثير من بريطانيا، لكنها ليست بنفس النفوذ العالمي للمملكة المتحدة، بسبب طبيعة النظام السياسي المنغلق القمعي، وحكم الحزب الواحد، وتغييب إرادة الشعب.

حرية “سلامة” ورفاقه

عبد الناصر سلامة مُقيَّد الحرية منذ عام، ويُعاقَب على تدوين رأي شخصي قد يرى البعض أنه اندفع فيه دون حساب العاقبة، أو أنه قال ما في داخله رغم إدراكه النتيجة، ليتخفف من حِمْل على صدره، ويعلن موقفًا دون مواربة، وهو في النهاية عبّر عن رأي شخصي.

ومَن هم في الخانة نفسها مع سلامة، مع اختلاف أسباب حبس حريتهم، قالوا أيضًا كلمتهم، وتقديري أنهم يريدون الإصلاح، ولا يتعمدون الصدام أو الخسارة، والبقاء خلف الأسوار، فليس هناك أثمن من الحرية، ولا أحد يسعى إلى التهلكة راضيًا، والرأي في النهاية يُواجَه بالرأي، وليس بالقيود.

بريطانيا (العظمى) لا تزال تستحق هذا الوصف، بسبب انتهاج الديمقراطية العتيدة، رغم أنها لم تعد (عظمى) كإمبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس، كما كانت تُوصف يومًا، ومن يريد أن يكون عظيمًا في هذا العالم فلا بد أن يكون ديمقراطيًّا يقينًا، فهي المدخل للتنمية الاقتصادية الصحيحة، والتقدم الحضاري والإنساني الطبيعي.

المصدر : الجزيرة مباشر