من فتح صندوق اللعنات؟

من زمن الجائحة

نهاية جائحة وبداية زلزال

بدأ ظهور فيروس كورونا أواخر عام 2019 وانتشر مع مطلع عام 2020 كالنار فى الهشيم وعاش العالم كابوسا لعينا، مات الملايين حول العالم بسببه، وتكدست المستشفيات بالمرضى وانهارت الأنظمة الصحية بسبب عدم قدرتها على استيعاب الأعداد المتزايدة من ضحايا كورونا.

وقفت الدول الكبرى المتقدمة والنامية، عاجزة عن استيعاب كيف يتلاعب فيروس ضئيل بمقدرات دول، وتراجعت صناعات وراجت أخرى. شهور طويلة كئيبة مرت على العالم أثرت على الاقتصاد العالمى وشبكة الامدادات ومست حياة الناس وغيرت عاداتهم وسلوكياتهم، وتوقع المتفائلون، وكنت منهم، أن تكون جائحة كورونا درسا ملهما للعالم أجمع بأثريائه وفقرائه، يتعلم منه الحرص على الحياة والاهتمام بمستقبل الكوكب ومراعاة الأخوة الإنسانية.

مع توافر اللقاحات بدأ انحسار الوباء، وتنفس العالم الصعداء، وتمنت الشعوب أن يكون القادم أفضل. كانت الآمال معقودة على عام 2022 ليسترد الاقتصاد العالمي عافيته وتدورعجلة النمو من جديد، لكن سرعان ما استيقظ العالم يوم 24 فبراير الماضى على زلزال بقوة سبع درجات، حين بدأت روسيا عمليتها العسكرية فى أوكرانيا ووقف أعضاء الناتو والعالم من حولهم مشدوهين، يراقبون الهوة العميقة التى تتسع يوما بعد يوم ويكاد الجميع أن يسقط فيها.

روسيا والغرب: “أكون أو لا أكون”

الحرب الروسية الأوكرانية تعيد إلى الذاكرة التراجيديا الإغريقية، حيث أبطال المأساة يلعبون الدور المرسوم لهم والذي لايملكون قدرة على تغييره، يساقون إلى حتفهم وكأن هناك قوة قاهرة تدفعهم دفعا إلى الهاوية، هذه الحرب تمثل لروسيا والغرب حرب وجود، يردد كلاهما مقولة هاملت: أكون أو لا أكون، فى المآسى الإنسانية يختلط الوهم بالحقيقة، وتعمى العيون عن الحد الفاصل بين حق الوجود وغرور التكبر، الذي يمكن أن يذهب بالعالم إلى الجحيم. والمثير للدهشة أن المأساة تدور بين الدول الأكثر تقدما علميا وعسكريا وحضاريا، وها هو الغرب المهيمن، الذي يقدم نفسه كنموذج يحتذى به، عاجز عن إيجاد مخرج آمن وحل سلمي بعيدا عن ساحات القتال.

تجارة الموت الرائجة

منذ أن انفردت أمريكا بحكم العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهي تفرض عليه أسلوبها فى الإدارة والحياة، الكولا والبرجر والدجاج المقلى وستاربكس.. مشروبات ومأكولات صدرتها أمريكا للعالم حيث الجميع يرغب فى تقليد المنتصر، وكما أتلفت الوجبات السريعة صحة الشعوب، تراكمت الشحوم فى شرايين النظام العالمي الذي فرضته أمريكا بالقوة الناعمة والخشنة، وأوشك هذا النظام على الإصابة بجلطة دماغية. فى الماضى القريب كان العالم يتحمل النزق الأمريكى مادام الدم يتدفق فى شرايين العالم، أما حين يتحول الأمر لنزاع وجودى فلابد من تدخل جراحي حربي.

منذ عدة أعوام، نشر الخبير العسكرى الأمريكى “دونالد ستوكر”كتابه: “لماذا تخسر أمريكا الحروب؟ الحرب المحدودة والاستراتيجية الأمريكية من الحرب الكورية إلى الوقت الحاضر”، ناقش فيه جدوى الحروب الأمريكية من كوريا إلى فيتنام إلى أفغانستان والعراق، وذكر أن الكونغرس لم يعلن الحرب منذ عام 1942، لكن سمح للرؤساء بإدخال الأمة فى “حروب محدودة” دون تدخل يُذكر من المشرعين، كانت أهداف هذه الحروب ضبابية بشكل عام.

بالنسبة لستوكر، فإن الغموض الذي تميزت به حروب أمريكا هو نتيجة طبيعية لعدم وجود أهداف واضحة من أولئك الذين يشنونها. حيث يتم التغاضى عن الأسئلة الأساسية مثل:ماذا نريد حقًا؟، وكيف نحافظ على السلام بمجرد أن نحصل عليه؟، ويتساءل الكاتب: إذا كنت لا تفهم هدفك السياسى، ولا تفهم معنى الفوز، فما هو النصر الذى من المفترض أن يبدو عليه؟!، الهدف الاستراتيجي الذى أعلنه “دونالد ترامب” الجمهورى وخليفته “جو بايدن” الديمقراطى هو ضرورة التصدى للصعود الصينى، فلماذا إذن تدخلت أمريكا فى حرب استنزاف مع روسيا تستنزف فيه الأخيرة والغرب والعديد من دول العالم؟، لماذا حرصت أمريكا على صب الزيت على النار كلما لاح فى الأفق أمل ولوطفيف لبدأ مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا؟ وكيف يمكن لأمريكا أن تدعى المصداقية فى رغبتها فى توفير الأمن والسلم للعالم؟، وهى غير قادرة على تحقيقه لمواطنيها الذين يموت العشرات منهم كل عام بسبب سهولة حيازة للسلاح وعدم قدرة الرؤساء والكونغرس على تشريع قانون يحد من ملكيته ويضع  له قواعد وشروط صارمة، ويبدو أن لوبى صناعة السلاح أقوى تأثيرا من مظاهرات الأمريكيين المطالبين بتعديل الدستور الذى يجيز ملكية الأفراد للسلاح والذى تنفرد به أمريكا.

تجارة الموت تنتشر في العالم بشكل مريب وكأن هناك من يسعى لزرع الأزمات والشقاق بين الدول لتحويلها لحروب تستدعى شراء المزيد من السلاح، فتجارته هى الأعلى ربحية فى العالم، وأمريكا هى الأولى في مبيعاته، فهل يمكن أن نصدق أن من يتربح من صناعة الموت يمكنه أن يحمل غصن الزيتون!!

كانت الدول الأوربية بعد انحسار جائحة كورونا تستعد لإنفاق المزيد للحفاظ على البيئة والمناخ والاستثمار فى الذكاء الاصطناعى والابداع، ولكن بسسب الحرب الأوكرانية  قررت إنفاق المزيد على التسليح ، ناهيك عن المساعدات العسكرية  الضخمة التى تقدمها أوروبا وأمريكا لأوكرانيا لتستمر الحرب لأجل غير مسمى.

مليارات الدولارات تنفق لتدمير المدن وقتل الأبرياء، فى نفس الوقت الذى يحذر فيه الخبراء من أنّ الجفاف الشديد وجائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا عوامل تُفاقم مخاطر المجاعة في الساحل وغرب أفريقيا. وحذرت منظمة الفاو: من أن الجوع وسوء التغذية قد يطالان 38.3 مليون شخص بحلول هذا الشهر إذا لم تتخذ تدابير مناسبة، كما أعربت منظمتا “أوكسفام” و”العمل ضد الجوع” عن مخاوفهما إزاء الانخفاض المفاجئ في المساعدات الدولية في أفريقيا وهو ما أكدته  (الفاو) من أن العديد من المانحين قد يقطعون التمويل عن أفريقيا لدفع تكاليف اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا.

ويبقى السؤال: من صاحب المصلحة في فتح صندوق اللعنات؟

المصدر : الجزيرة مباشر