مشاهد “العار الوطني” من بيجين إلى القاهرة

يقف أمام رتل الدبابات اقتحم ميدان تيانانمين في بيجين أثناء مظاهرات ٤ يوليو ١٩٨٩

سجّلت الأيام الماضية ثلاثة مشاهد من “أيام العار الوطني”، التي حلّت ذكراها، في شهر يونيو الجاري، في كل من الصين والولايات المتحدة وفيتنام، ومصر. يختلف الحدث من دولة لأخرى، وقد يصيب العار فردًا، يلطخ سمعة أمة بأكملها، وقليل ما يتحول عار فردي إلى مصدر فخر للجميع.

المشهد الأول، جاء مكملًا لما بدأته حكومة الصين عبر سنوات طويلة، منذ أن دهست الدبابات رؤوس الشباب المطالبين بالحرية في ساحة تيانانمين (الميدان السماوي)، ليلة 4 يوليو 1989، فقتلت الدبابات -وفقًا للإحصاءات الرسمية- بضع مئات، بينما شهود يؤكدون، أن القتلى تخطوا الآلاف، عدا أضعافهم ممن أصيبوا بالرصاص والقنابل، منهم من مات في المستشفيات والسجون، وقليل هربوا للخارج.

عندما تقترب ذكرى هذا اليوم، تُوضع الصين في حالة استنفار أمني شديد. توقع الجميع أن يمر المشهد بسلام هذا العام، فالدولة أغلقت مدنًا لمواجهة كورونا، وتمكنت الحكومة من تحجيم المعارضة في هونغ كونغ وماكاو، حيث يتحشد عادة أنصار الديمقراطية، للاحتفال بذكرى “العار الوطني”.

بائع الآيس كريم

أجهزة الأمن وضعت رقابة مشددة كالعادة، على الإنترنت، فهي تعلم أن الشباب يخترع كل عام رموزًا تعبيرية “ترند”، وكلمات تعكس احتفاءهم بالحدث، أو تحدد مكان اجتماع مفاجئ، ينددون فيه بالمذبحة، التي ارتكبها جنرالات الحزب الشيوعي.

أتى الاستنفار المشدد بنتائج عكسية، عندما لفتت الأجهزة الرقابية انتباه الشباب البعيد عن السياسة، المتابع بنهم للبرامج التافهة على الإنترنت. وقع حادث غريب، مساء الجمعة 3 يونيو، أثناء تقديم، لي جيا كي، أكبر بائع للتجارة الإلكترونية على الإنترنت، عرضًا لبيع طبق من الآيس كريم، بتخفيضات كبيرة. توقف الإرسال فجأة، أثناء متابعة 50 مليون شخص، مباشر للملياردير “لي” على قناته الخاصة بموقع “ويبو”.

بدأ الشباب يتساءلون فيما بينهم، لماذا اختفى لي جيا كي فجأة؟!. متابعو “لي” المولود عام 1992، أغلبهم، من جيل الطفل الواحد، المدللين، لا يعرفون أية معلومات عن “مذبحة تيانانمين”، لأن الدولة تزيل كل ما يتعلق بها، من الإنترنت والكتب، حتى الجيل القديم لا يمكنه الخوض في هذه الأحداث نهائيًا.

الرفاق خائفون

حاولت مرارًا، مع أصدقاء من جامعة بيجين، أثناء زيارتنا المتعددة برفقتهم للميدان، أن يشرحوا رؤيتهم لحادث عاصروه، فكانوا يتلفتون حولهم، ويهربون. واحد منهم، ناقش الحدث، بعد أن أخذني خارج الجامعة، تحدث بهمس، ونحن وسط شارع عرضه 150 مترًا، دون أن يذكر كلمة تشين النظام. يقدّم لي جيا كي، تخفيضات وفرص بيع هائلة للشباب، فظلوا ينتظرون عودته، وبعد ساعات أصدر بيانًا، يعتذر فيه لوجود عطل فني، ويعدهم بعودة في يوم آخر، لم يأت بعد. رصدت مراسلة صينية لشبكة CNN عودة لي جيا كي، للبث على موقع ” تاو باو” للتسوق المباشر عبر الإنترنت، الاثنين 6 يوليو، حيث انتظره نحو 60 مليون متابع. بين التوقف والعودة، تأكد الجميع، أن قطع الإرسال عن البائع الشهير لم يكن خللًا فنيًا، ولكن لأن علبة الآيس كريم التي عرضها للبيع، ظهرت على شكل دبابة. وعادة ما يرفع المحتفلون بذكرى “العار” الصورة الأيقونية، لطالب يقف بشموخ وتحد، يتصدى لدبابة، على مشارف تيانانمين، فيمنعها من دخول الميدان، إلى أن جاءت القوات العسكرية، واقتحمت المكان ليلًا ودهست من فيه.

اعتقدت السلطات أن البائع يسوّق لصورة الدبابة الشهيرة، فقطعت الإرسال، وأثناء الانتظار، تبادل الشباب المعلومات عن المذبحة، اختلقوا رموزًا، أسوة بما فعل ذووهم في هونغ كونغ للاحتفاء بقدرتهم على تذكير السلطة بــ”العار الوطني”، عندما سحقت المتظاهرين السلميين، في قلب بيجين. لم تفلح الرقابة الإضافية في ملاحقة التعليقات الساخرة من سلطة تملك قبضة قمعية قوية على الإنترنت والمواطنين، بعد أن وجهت انتباه الشباب إلى معلومات تحاول دفنها عبر السنين.

فتاة النابالم

جاء المشهد الثاني، عبر صورة مثلت لصاحبتها “عارًا شخصيًا”، وهي صورة “فتاة النابالم” التي التقطت للفتاة كيم فوك Kim Phuc، وعمرها ٩ سنوات، من قِبَل مصور وكالة أسوشيتدبرس الأمريكية AP نيك أوت Nick Ut، عندما كانت تجري وتصرخ وهي عارية، بحثًا عمن ينقذها ويطفئ نيران اشتعلت بملابسها، واستعرت بجسدها النحيل. أسقطت الطائرات الفيتنامية المدعومة من الولايات المتحدة، بالخطأ النابالم على مدنيين فيتناميين مؤيدين لهم. كان لمشهد “فتاة النابالم” أثر أفزع الضمير العالمي، ودفع الأمريكيين وأحرار العالم، إلى التظاهر مطالبين بوقف الحرب والانسحاب من فيتنام. أنكر الرئيس الأمريكي نيكسون صحة الصورة، التي ألحقت العار به وبقواته، ولكن حرية الصحافة، مكنت المصور من إثبات وقائع الجريمة، ومنحته أعلى جائزة صحفية “بوليتزر” عام 1972، بينما أقيل الرئيس، ملاحقًا بعار “فتاة النابالم”، وفضيحة “ووتر جيت” التي فجرتها الصحافة أيضًا.

احتفلت كيم والعم نيك، كما تُناديه الفتاة، الأسبوع الماضي، بمرور 50 عامًا على التقاط صورتها، التي تحولت من عار شخصي لفتاة صغيرة، تعرت فتألمت نفسيًا، وما زال أثر الحريق عالق بجسدها، إلى أيقونة وطنية في فيتنام، مناهضة للحرب، وحيثما انتقلت إلى كندا، تدعو الجميع للعيش بتسامح وسلام.

فتاة النابالم الشهيرة

عار “القاهر والظافر”

من القاهرة، كان المشهد مختلفًا، فقد مرت “ذكرى العار”، هزيمة 5 يونيو 1967، مرور الكرام، رغم أن الكارثة، أدت إلى احتلال الكيان الصهيوني لسيناء بأكملها، والقدس ونصف فلسطين الآخر، والجولان، ونهر الأردن. لا يختلف أحد على أن الهزيمة القاسية على يد العدو، سببت عارًا وطنيًا، لم يفلح انتصار أكتوبر المجيد، في محو كل آثاره حتى الآن، وأن العار وراءه فساد قادة الجيش ورعونة الزعيم جمال عبد الناصر.  بعد 55 عامًا، على قتل 15 ألف جندي في سيناء، وعدم معرفة مصير آلاف آخرين حاربوا في اليمن، احتفى أنصار الزعيم يوم 10 يونيو، بذكرى عودة صاحب العار في استقالته، بعد هزيمة عسكرية فاضحة، بينما لم يتمكن أحد من دراسة: لماذا انهار الجيش دون قتال؟ وما حجم الفساد الذي ارتكبه قادته؟ لنتعلم كيف تنجو الأجيال من عار آخر.

المصدر : الجزيرة مباشر