“زائر الفجر”.. الفيلم الذي قتل مُخرجه!

المخرج ممدوح شكري

 

لم يحتمل المخرج الشاب ممدوح شكري (34 عاما) قرار الرئيس المصري أنور السادات بمنع عرض فيلمه “زائر الفجر” بعد أسبوع واحد من عرضه سينمائيا في يناير 1973، بسبب ما يشير إليه الفيلم من انتقاد للأوضاع السياسية التي يرى مخرجه وكاتب السيناريو بالاشتراك مع السيناريست رفيق الصبان أنها أدت إلى هزيمة يونيو/حزيران 1967.

أثار الفيلم خلال أسبوع عرضه ضجة كبيرة على مستوى الجمهور والنقاد، وذلك لإشارته الواضحة إلى ما أُطلِق عليهم “زوّار الفجر” (لم يقدّم الفيلم حالة منها)، فكان أن أصدرت القيادة السياسية ممثلة في رئيس الجمهورية قرارا برفع الفيلم من العرض السينمائي، ليصاب مخرجه الشاب الواعد في ذلك الوقت بأزمة كبرى لم يخرج منها إلا بوفاته في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته.

هبوط حاد في القلب

يبدأ فيلم (زائر الفجر) بوفاة البطلة نادية الشريف، صحفية بإحدى الصحف الكبرى في 5 يونيو/حزيران 1970، وفي التاريخ إشارة إلى الهزيمة، ويبدأ وكيل النيابة حسن الوكيل بالتحقيق في الحادث لوجود دلائل كثيرة على أنها جريمة قتل، ورغم أن تقرير الطبيب الشرعي يشير إلى هبوط في القلب، فإن وكيل النيابة يشعر أن نادية الشريف تعرضت لضغوط أدت إلى الوفاة، فهناك من أوصلها إلى الوفاة عن طريق الخوف أو القهر والرعب.

كأن ممدوح شكري يكتب بيده ما سيتعرض له بعد إخراجه الفيلم، فقد كانت من نتيجة توقف العرض السينمائي، خسارة منتجته ماجدة الخطيب لأموالها وهي التي تحمست لإنتاجه مع الكاتب رفيق الصبان، بعد أن رفضت مؤسسة السينما إنتاج الفيلم، فقد تعرّض ممدوح لانتكاسة نفسية أدت إلى مرضه، ودخل مستشفى الحمّيات ليموت فيه بفيروس تمكّن من جسده، المنهار نفسيا ومعنويا بسبب منع الفيلم.

لماذا “زائر الفجر” فقط؟!

ورغم أن فيلم ممدوح شكري لم يكن الأول الذي أنتِج للبحث عن أسباب ما حدث في يونيو فقد سبقته أفلام أخرى مثل (ثرثرة فوق النيل) و(العصفور)، وسنة إنتاج الفيلم كانت بعدما أطلق عليها السادات “ثورة التصحيح” حينما تخلّص من رجال نظام عبد الناصر في 15مايو/أيار 1971، التي أعلن فيها السادات الخلاص مما سمّاها مراكز القوى، وقد تضمّن الفيلم إشارة إلى بعض هؤلاء، وإن لم يكن بقوة أفلام أخرى.

إذَن، لماذا هذا الفيلم فقط؟! فلم يشر إلى أحداث المعتقلات كما أشارت أفلام أخرى، وبطلة الفيلم التي ماتت رعبا خوفا من زائر الفجر لم تتعرض للاعتقال إلا عام 1952 بعد حريق القاهرة، أي قبل ثورة يوليو/تموز بستة أشهر، وعندما جاءت الثورة خرجت وعملت بإحدى الصحف، وأثناء اعتقالها المرة الوحيدة تعرضت للتعذيب مما جعلها تعترف على زملائها، وعاشت بعقدة الذنب تلك، وأصبح لديها رعب من إلقاء القبض عليها.

الفيلم أيضا يدين أحد رجال السلطة البوليسية برتبة لواء، الذي على علاقة بامرأة (صاحبة كوافير) وتدير شققا للدعارة ويأتي إليها صحفيون كبار ومحامون وأصحاب أعمال ونفوذ، وهو ما شاهدناه في أفلام أخرى، سمح بها نظام السادات بل دعمها كثيرا من أجل تشويه الفترة الناصرية، فلماذا فقط “زائر الفجر”؟!

ما بين الخامس من يونيو والعاشر منه

قصة الفيلم تقع بين هذين التاريخين، فالأحداث تبدأ بوفاة البطلة بهبوط في القلب نتيجة رعبها من زوار الفجر الذين يعتقلون المعارضين فجرا في التاريخ الأول، وينتهي بحفظ القضية في العاشر من يونيو 1970، وقد قيل إنه نفس التاريخ بين هزيمة يونيو وتنحي عبد الناصر الذي أغلق ملف الهزيمة (حسب رؤية بعض النقاد أو مانع الفيلم)، وأعتقد أن هذا تحميل للفيلم أكثر مما يحتمل، وذلك بعد مرات عدة من مشاهدته.

كل إشارات الفيلم سريعة بما فيها فكرة الاعتقال السياسي، فلم يحدث اعتقال للبطلة منذ الثورة وحتى وفاتها رعبا، واعتقال زملائها قبل الوفاة بيومين كان خبرا خلال مشهد عابر بينها وبين صديقتها، وفساد النفوذ السياسي كان في مشهد تدخّل قيادة شرطية للإفراج عن المرأة صاحبة شبكة الدعارة فقط، وموضوع فساد طبيب النساء (زوج البطلة) ليس له علاقة بالنظام السياسي القائم.

الفيلم يمكن تصنيفه خارج المجموعة التي تعرضت لهزيمة يونيو وأسبابها، حتى فكرة الحرية السياسية للبطلة لم تتعرض لها، مثل منع مقالات أو إيقاف عن العمل، ولم تجد نفسها خارج المؤسسة التي تعمل بها، حتى مدير التحرير اليساري وزميلها في السجن في المرة الوحيدة لهما قبل الثورة، يجتمع مع اليساريين ويمارس حياته دون تضييق من أجهزة الأمن، فلماذا مُنع الفيلم؟!

استمر منع فيلم (زائر الفجر) حتى مارس 1975، بعد تدخّل الكاتب سعد الدين وهبة -الذي كان نائبا لوزير الثقافة- لدى السادات، وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا في عرضه الأول، وحقق إيرادات بلغت 18 ألف جنيه، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت.

مأساة زائر الفجر

إن منع الفيلم وتحميله الكثير من الأوجه واحد من عوامل نجاحه حتى الآن، فهناك الكثير من الهزات في سيناريو الفيلم رغم جودة الموضوع الذي كان يمكن أن يكون في إطار الرعب والقهر الذي سبّب للبطلة الوفاة، نتيجة سجنها مرة في حياتها.

فكرة الأيام الخمسة في الفيلم غير منطقية، فإذا دققنا في الأحداث وتتابعها في التحقيق فسنجد مدة أطول، ورغم الحضور السياسي في الفيلم فلا يمكن ربط الموت بالهزيمة، ولا دفن الهزيمة بخطاب التنحي، فمصر لم تمت في يونيو، وخرج الشعب يؤكد على استرداده الأرض والنصر.

لم يُغلَق الملف بخطاب الرئيس جمال عبد الناصر، بل بدأت مرحلة حرب الاستنزاف التي استمرت حتى أغسطس 1970 بقبول مبادرة روجرز -وزير الخارجية الأمريكي- لوقف إطلاق النار. كذلك يمكن الذهاب إلى تفنيد ما خص الفساد بين بعض المسؤولين والشخصيات العامة مع صاحبة شبكة الدعارة، بأنها حالة مستمرة، أشارت إليها أفلام عديدة عبر أزمنة مختلفة، من (شفيقة ومتولي) إلى (القاهرة 30) و(القطط السمان).

إن مأساة (زائر الفجر) صَنعها مَن منع الفيلم، واختُتمت بوفاة مخرجه الشاب قهرا بعد منع عرضه بعشرة أشهر، وهو الذي لم يقدّم سوى خمسة أفلام، ثم ما تكبدته المنتجة الرئيسية للفيلم وبطلته ماجدة الخطيب طوال مدة منع الفيلم من خسائر مادية.

يبقى أن زائر الفجر -رغم كل ظروفه- فيلم سينمائي رائع، وتم تكريم مخرجه من جمعية مهرجان الفيلم عام 2014، عن هذا الفيلم الذي أدى بطولته ماجدة الخطيب وعزت العلايلي ويوسف شعبان وشكري سرحان، وقدّم عددا من الوجوه السينمائية الجديدة الذين برزوا في الأعمال الدرامية بعد ذلك، منهم مديحة كامل وزيزي مصطفى وجلال عيسى، والممثل الكوميدي سعيد صالح.

المصدر : الجزيرة مباشر