“كيليشدار” والتبرؤ من ماضي حزبه طمعا في الرئاسة

كمال كيليشدار أوغلو

مع بدء العد التنازلي لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا، المقررة منتصف يونيو من العام المقبل 2023، واشتداد المنافسة بين العديد من الأسماء المطروحة على طاولة ائتلاف أحزاب المعارضة السبعة لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية ضد الرئيس أردوغان، شهدت الأيام القليلة الماضية تحركات متزايدة من جانب كمال كيليشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري أكبر الأحزاب التركية المعارضة وأكثرها تأثيرا في شريحة اليساريين والعلمانيين والكماليين، نسبة لكمال أتاتورك!

رغبة جامحة لخوض الانتخابات الرئاسية ومواجهة أردوغان، هي المحرك الرئيس لتحركات كيليشدار أوغلو النشطة هذه الفترة، إذ أصبح لديه يقين بأن الوقت قد حان ليس فقط لتحقيق انتصار سياسي مذهل، بل وتوجيه ضربة قاضية للعدالة والتنمية ورئيسه أردوغان، ويبدو أن هناك من يصور له المسألة على أنها -هذه المرة- لا تعدو أن تكون مجرد نزهة سياسية، يمكنه أن يعتلي على إثرها منصب رئاسة الجمهورية ويتولى إدارة البلاد بكل سهولة.

وتحقيقا لهذه الرغبة يبذل زعيم المعارضة التركية جهودا جبارة، ويتحرك هنا وهناك، فمن جهة يحاول دوما في كل لقاءاته مع شركائه من الأحزاب الأخرى التأكيد على أنه المرشح الوحيد أمامهم، وأن مسألة ترشيحه يجب أن تتم لاعتبارات عديدة منها أنه زعيم المعارضة وصاحب أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، ويتولى حزبه إدارة أكبر البلديات على مستوى تركيا، وهو ما يعني أنه يتمتع بشعبية وجماهيرية ليست لدى أيّ منهم، ولهذا فهو الأنسب للقيام بهذه المهمة.

وعلى المستوى الشعبي يبذل جهودا جبارة متنقلا هنا وهناك، مقيما الاجتماعات، وعاقدا اللقاءات، وقاطعا مسافات طويلة سعيا وراء الفوز برضا الناخبين، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف قام كيليشدار أوغلو مؤخرا خلال اجتماع برلماني لنواب حزبه بإطلاق تصريح استهدف به طمأنة الإسلاميين والجماعات الدينية والمحجبات، حينما أعلن صراحة أن حزبه اليوم ليس هو نفسه حزب الأمس، وأن هناك الكثير من المفاهيم والتغييرات التي حدثت خلال العقود الماضية، وصححت مساره.

مخاوف من الفشل

وهو التصريح الذي كشف بوضوح حجم المخاوف الحقيقية التي لا تزال المعارضة تشعر بها وخصوصا حزب الشعب الجمهوري من تأثيرات التيار الإسلامي التركي على النتائج المحتملة للانتخابات المقبلة، وإمكانية خسارة المعارضة فيها، في ظل استمرار دعم هذا التيار لحزب العدالة والتنمية، فالحزب سعى خلال السنوات الماضية لمحو صورة الماضي المترسخة في أذهان الإسلاميين الأتراك نتيجة المعاناة التي لاقوها على أيدي قيادات الحزب ليس فقط خلال فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك ورفيقه عصمت إينونو، ولكن خلال حقبة الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي، تلك الصورة التي أكدها وأعادها إلى الأذهان النقاش الذي دار حول قضيتي الحجاب ورفع الأذان باللغة التركية منذ عدة أشهر.

ففي برنامج تلفزيوني بإحدى الفضائيات المحسوبة على التيار اليساري، أعلن فكري ساغلار الوزير السابق ونائب حزب الشعب الجمهوري السابق، وهو أحد أبرز قياداته من الحرس القديم، أنه لا يمكنه الوثوق بنزاهة قاضٍ يحكم عليه إذا كان هذا القاضي امرأة محجبة!! وهو التصريح الذي أعاد ذاكرة المحافظين والإسلاميين إلى اجترار الماضي، وفجر حزنا عميقا وغضبا كبيرا في نفوس الأتراك على اختلاف جماعاتهم وانتماءاتهم السياسية.

إعلان أعاد النقاش مجددا حول مسألة الحجاب في تركيا، وحقيقة تغير قناعات حزب الشعب الجمهوري بشأنه، ومدى إمكانية الوثوق بما يصدرعن قادته من تصريحات هنا وهناك، وما يمارسونه من أفعال، ومدى حقيقة نظرتهم إلى مسألة الحجاب في ظل هذا الاهتمام دوما بمشاركة بعض المحجبات في اجتماعاتهم وفعالياتهم. وهل يعني ذلك أن الحزب بدل اقتناعاته بشأن هذه المسألة أم أنه يتلاعب من أجل الاستحواذ على السلطة ثم يعيد البلاد مرة أخرى إلى حقبة منع المحجبات من دخول مؤسسات الدولة الرسمية!!

أفعال أصدق من الأقوال تفضح خفايا النفوس

مخاوف زاد من حجمها قيام بلدية إسطنبول التي يترأسها أكرم إمام أوغلو عن حزب الشعب الجمهوري، وأحد أبرز قيادته المرشحة لخوض الانتخابات الرئاسية، برفع الأذان وقراءة القرآن والدعاء باللغة التركية خلال فعالية أقامتها في ذكرى وفاة مولانا جلال الدين الرومي.

ورغم محاولات قيادات الحزب تبرير تلك التصرفات، واعتبار ما حدث مجرد خطأ غير مقصود، داعين إلى عدم استغلال ذلك سياسيا، فإن هذه التصرفات تشير إلى أمرين في غاية الأهمية والخطورة معا، يمكن تلخصيهما فيما يلي:

1 –  أن زعيم حزب المعارضة كمال كيليشدار أوغلو يدرك تماما أن فوز حزبه في الانتخابات المقبلة سواء برلمانية كانت أو رئاسية منوط بأصوات التيار الإسلامي المحافظ في البلاد، وهو ما يعني -من وجهة نظره- ضرورة التضحية بالغالي والنفيس من أجل استعادة ثقة هؤلاء فيه وفي حزبه لضمان تصويتهم لصالحه، وأن ذلك لا يمكن أن يكون إلا من خلال اعتماد خطاب عقلاني يتم التأكيد فيه على الاحترام الذي يكنه الحزب لكافة التوجهات الفكرية والمعتقدات الدينية لمختلف شرائح المجتمع التركي، مع ضرورة الابتعاد عن ذكر ممارسات الحزب في الماضي وتطبيقه لعلمانية متشددة تسببت في إحداث الكثير من الأذى لفئات متعددة من المجتمع، ولا يزال الحزب يدفع ثمنها إلى اليوم.

2 – أن حزب الشعب الجمهوري نفسه يعيش أزمة هوية داخلية، وأن هناك صراعا كبيرا غير معلن بين أجنحته، فقيادات الحزب برئاسة كمال كيليشدار أوغلو ترغب في تهدئة الأمور والعمل على جذب أصوات كافة التيارات والإثنيات العرقية والتوجهات السياسية بمن فيهم المحافظون والإسلاميون خصوصا أولئك الذين لديهم تحفظات على بعض سياسات حزب العدالة والتنمية، وأنه من أجل تحقيق ذلك الهدف يجب أن تكون تحركات الحزب وخطاباته متحفظة تجاه القضايا التي يمكن أن تثير حساسية هؤلاء، وتقف حجر عثرة أمام إمكانية وثوقهم بالحزب وتصرفاته المستقبلية التي يمكن أن تمس عقيدتهم، أو تعمل على تغيير نمط حياتهم الذي ارتضوه لأنفسهم.

أما التيار اليساري والعلماني المتشدد داخل الحزب فيرى أن هناك مبادئ علمانية كمالية يجب احترامها والسعي لتنفيذها والسير على نهجها مهما كان الثمن الذي يدفعه الحزب في سبيل ذلك، حتى ولو كان هذا الثمن هو خسارة الانتخابات، فالتمسك بالقيم والمبادئ التي يقوم عليها الحزب أهم بكثير لديهم من تحقيق الفوز مع فقدان الهوية الأساسية للحزب، التي ارتكز عليها عند تأسيسه.

هل يعي زعيم المعارضة الدرس!

ويبدو أن المسألة لم تنته كما يريد لها كيليشدار أوغلو أن تنتهي، ولهذا جاء تصريحه الذي أطلقه على العلن من منصة حزبه داخل البرلمان محاولًا وضع حد لهذا الانقسام الذي يهدد كيان الحزب في وقت حرج للغاية.

أما على المستوى الجماهيري، فيبدو أن الحزب لم يحصد نتاج كل ما بذله خلال الفترة الماضية من أجل تحسين صورته في أذهان المواطنين، ولعل أبرز مثال على ذلك ما قالته إمرأة مسنّة في إحدى القرى النائية لكمال كيليشدار أوغلو نفسه حينما طلب دعمها لحزبه في الانتخابات مؤكدا لها أنهم تغيروا ولم يعودوا كما كانوا في الماضي، فردّت عليه بأنه لا أحد يتغير، وأنها لا تزال تتذكر المعاناة الأليمة التي عاشتها في فترة شبابها تحت حكم حزبه، وأنها لن تغفر لهم ما فعلوه بها ولا بأسرتها، ولن تسامح أحدا منهم أبدا، ولن تسمح لهم بالعودة مجددا لحكم تركيا.

موقف مبدئي يتوافق مع وجهة نظر الكثير من الأتراك الذين عانوا الأمرين جراء فترة حكم الشعب الجمهوري، وليست هذه المرأة المسنّة وحدها، فالجميع يعلم ما يمكن أن ينطوي عليه صعود حزب الشعب الجمهوري إلى سدة الحكم في البلاد، والسيناريوهات التي سيسعى إلى تطبيقها لتنفيذ أجندته التي وضعها مؤسسوه في عشرينيات القرن الماضي، والتي لن يتهاونوا في تنفيذها مهما كانت التضحيات، فهل يدرك زعيم المعارضة الرسالة التي جاءت على لسان هذه المرأة المسنة!

المصدر : الجزيرة مباشر