إجبار الفلاحين على توريد القمح يفاقم أزمة الخبز في مصر

لماذا لا تشتري الحكومة القمح من الفلاح بالسعر نفسه الذي تدفعه للمزارع الأجنبي؟!

 

ليس من المبالغة الإقرار بأن الخبز هو السلعة الاستراتيجية الأهم من الناحية الغذائية، والأخطر من الناحية الاجتماعية والسياسية والأمنية في كل دول العالم. وكان -ولا يزال- سببا رئيسا في إشعال الثورات الاجتماعية قديما، وشرارة ثورات الربيع العربي حديثا. أما القمح الذي يُستخدم في صناعة الخبز، فلا يقل أهمية عن الخبز، فهو المحصول الزراعي الأول في العالم من حيث المساحة وكمية الإنتاج، والسلعة الغذائية الاستراتيجية الأهم من الناحية السياسية.

ومرة أخرى، لفتت الحرب الروسية على أوكرانيا أنظار الحكومات والشعوب إلى أهمية محصول القمح الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية، بسبب مسؤولية الحرب عن إيقاف تصدير أكثر من ربع كمية القمح المتاح للتجارة الدولية. ولمواجهة أزمة شح القمح وارتفاع سعره في السوق الدولية، اتخذت الحكومة المصرية قرارات غير مسبوقة لتتمكن من شراء أكبر كمية من القمح المحلي وتأمين مخزون احتياطي من السلعة الاستراتيجية.

فقرر مجلس الوزراء المصري، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، زيادة سعر أردب القمح المحلي بمقدار 95 جنيها، بنسبة 13% عن سعر توريد العام الماضي، ليصل السعر إلى 820 جنيها للإردب. ثم أعلن المجلس زيادة السعر للمرة الثانية في منتصف شهر مارس/آذار الماضي بما سمّاه “حافزا إضافيا” قدره 65 جنيها للإردب، وبنسبة زيادة قدرها 8% تقريبا عن السعر المعلن سابقا. وبذلك وصل سعر الإردب إلى ما يتراوح بين 865 و885 جنيها، حسب درجة النظافة. ليصل الحد الأعلى لسعر الطن (6.67 أرادب) إلى 5900 جنيه (نحو 320 دولارا).

برر المجلس الزيادة -في بيان عبر حسابه الرسمي في موقع فيسبوك- بأنها صدرت تنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية بدعم المزارعين وتشجيعهم على زيادة الكميات الموردة من القمح المحلي. ثم أصدر وزير التموين في اليوم نفسه قرارا يُجبر الفلاحين على توريد 12 إردبا (الإردب 150 كيلوغراما)، حدّا أدنى من محصول القمح عن كل فدان وبالسعر الجديد.

ونص القرار على حرمان من يمتنع عن تسليم الكمية المحددة من صرف الأسمدة المدعومة، ومن دعم البنك الزراعي، مع تطبيق العقوبات المنصوص عليها في المادة 56 من القانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشؤون التموين، وهي الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 300 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه، وتُضبط كميات القمح، ويُحكم بمصادرتها، كما تُضبط وسائل النقل أو الجر التي استُعملت في نقله، ويُحكم بمصادرتها.

وقال الوزير إنه نظرا للظروف العالمية، فمن واجب الدولة تأمين السلع الأساسية، عن طريق عملية “إجبار نسبي”، وإن الحكومة تستهدف شراء 6 ملايين طن من القمح من الفلاحين بزيادة قدرها 67% على الكمية التي قامت بشرائها العام الماضي، وهي 3.6 ملايين طن.

والسؤال هنا، هل تنجح سياسة التوريد الإجباري في شراء 6 ملايين طن من القمح المحلي؟! وهل تكفي الزيادة الجديدة في سعر القمح لإقناع الفلاحين ببيع المحصول للحكومة؟! وهل يشجعهم على التوسع في زراعته الموسم المقبل الذي يبدأ في شهر نوفمبر؟!

التوريد الإجباري

بدأت الحكومة سياسة التوريد الإجباري للقمح في سنة 1945، بالفرض على الفلاحين توريد حصة من القمح تتراوح بين إردب و3 أرادب للفدان مقابل سعر محدد تفرضه الحكومة أيضا. وكان هدف الحكومة المعلن هو التوزيع العادل للغذاء والدخل في مصر. وكانت مساحة الأرض المزروعة بالقمح في حدود نصف الرقعة الزراعية في ذلك التوقيت. وفي سنة 1955 خفضت حكومة جمال عبد الناصر مساحة القمح إلى 33% من الأرض الزراعية لأسباب غير معلنة. وفي الوقت نفسه، استمرت الحكومة في فرض سياسة التسليم الإجباري لحصة القمح بسعر ثابت.

في أوائل الستينيات، تم إنشاء تعاونيات زراعية في كل قرية للتحكم في إنتاج المحاصيل الرئيسية وتسويقها، بما فيها القمح. قدّمت التعاونيات التقاوي والأسمدة والمبيدات الزراعية للفلاحين، وفرضت الدورة الزراعية، واستمر نظام التوريد الإلزامي لحصة القمح -بجانب الأرز والقطن- بسعر ثابت.

وكان الهدف المعلن هو تمويل بناء المصانع من فارق أسعار تصدير القطن والأرز بالأسعار العالمية والأسعار المحلية. وكان يُطلق على هذا الفارق “وفورات قطاع الزراعة”. ولكن كان هناك هدف آخر غير معلن، وهو شراء ولاء السكان في المدن بتقديم الخبز بثمن منخفض على حساب الفلاحين، لذلك وجب إحكام السيطرة على إنتاج القمح وتداوله، وكذلك الأرز والقطن.

ومع وجود نظام دعم الخبز والبطاقات التموينية، أصبحت الحكومة القناة التسويقية الوحيدة للقمح والدقيق والخبز. وفي أوائل السبعينيات، انخفضت نسبة الأراضي المخصصة للقمح إلى 27.5%، واستمر نظام التوريد الإجباري. ومن سنة 1976 إلى 1984، أُلغيت سياسة التوريد الإجباري إلى البيع الاختياري، حيث يمكن للمزارعين بيع القمح طواعية للحكومة بسعر شراء ثابت. وفي عام 1985، أعيدت سياسة التوريد الإجباري في ظل إحجام الفلاحين عن البيع طواعية بسعر بخس.

التوريد الإجباري كان يستحوذ على ثلثي إنتاج محصولي القمح والأرز، وكل إنتاج القطن وقصب السكر. والسعر الذي تفرضه الحكومة كان يقل عن السعر العالمي بمقدار الثلث أو النصف. وكان الفلاح يطلق على حصة القمح والأرز المفروضة عليه اسم قمح التموين وأرز التموين، وكان يهتم باستيفاء حصة القمح وجودته ونقاوته حتى لا يتعرض للعقاب المقنن بالغرامة والسجن.

وإذا لم يغطِّ الإنتاج حصة التموين، بسبب انخفاض خصوبة الأرض أو بسبب تلف المحصول بالأفات الزراعية، يستكمل الفلاح حصة التموين بشراء كمية من القمح أو يقترضها من جاره، سلفة يردّها الموسم القادم. وكان السعر المتداول بين الفلاحين أعلى من السعر الذي تفرضه الحكومة. فيشتري بسعر أعلى ليستكمل الحصة ليسلمه للحكومة بسعر أقل.

وأحيانا كان الإنتاج لا يكفي إلا حصة التموين فقط، فيحصد الفلاح القمح ويذهب به من الحقل إلى شونة الاستلام مباشرة، لا يدخل بيته من المحصول الذي كد في إنتاجه هو وأولاده حفنة قمح يمكن أن تطحنها الزوجة وتخبزها. وكذلك الأرز يسلّمه الفلاح من الحقل إلى الشونة، لا يتبقى منه ما يكفي لطهو صينية واحدة من الأرز المدسوس بالحليب والقشدة. وهكذا، كان الفلاح يدعم الحكومة، وليس العكس، كما هو معروف في الدول الرأسمالية والاشتراكية على السواء.

وفي سنة 1988، تنفس الفلاح الصعداء عندما ألغى التوريد الإجباري للقمح والأرز. ولكن إلغاء التوريد الإجباري الذي طبقه وزير الزراعة يوسف والي -تحت مسمى تحرير الزراعة- كان وبالا على الفلاح والزراعة معا. فلم يجد الفلاح من يشتري المحصول بسعر مُجزٍ ويغطي تكاليف الإنتاج ويوفر له بعض الربح ليتمكن من الانفاق على أولاده، فعزف عن زراعة القمح وتراجعت المساحة وانخفض الإنتاج وزادت الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك إلى 69%. فلم يزد الإنتاج على 9 ملايين طن، وزاد الاستيراد إلى 13 مليون طن، وأصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.

السعر المحفز

تعلن الحكومة منذ 2014 أنها تشتري القمح من الفلاحين بما يوازي السعر العالمي الذي يقل في الغالب عن تكلفة الإنتاج، ولا يحقق أي مكاسب تحفز الفلاحين على التوسع في زراعة المحصول الاستراتيجي، بل يكبده خسائر. وصل سعر الطن إلى 255 دولارا قبل الحرب على أوكرانيا. وفي منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي، اشترت الحكومة شحنة من القمح مقدارها 365 ألف طن من فرنسا ورومانيا وروسيا. وقال تجار لوكالة رويترز، إن سعر الشراء وصل إلى 460 دولارا للطن، وهو ما يعادل 1300 جنيه للإردب.

وهو ما يعني أن الحكومة تشتري القمح الأجنبي بسعر يزيد على سعر القمح المصري بمقدار 400 جنيه للإردب، أو 2600 جنيه للطن. والسؤال هنا، لماذا لا تشتري الحكومة القمح من الفلاح بالسعر نفسه الذي تدفعه للمزارع الأجنبي؟! في هذه الحالة، ستوفر الدولار الذي تعاني من شحه، وسيحقق الفلاح هامش ربح يشجعه على التوسع في زراعة المحصول الاستراتيجي ويقل الاستيراد بالعملة الصعبة.

ذلك أن السعر الذي تفرضه الحكومة للقمح المحلي يُلحق خسائر بالفلاحين الذين يحصلون على الأسمدة والمبيدات والتقاوي والوقود والكهرباء المخصصة لري المحاصيل بالأسعار العالمية. أقصى أماني الفلاح أن تشتري الحكومة منه القمح بسعر 1000 جنيه للإردب، وهو مطلب متواضع بالنسبة للسعر العالمي الذي وصل إلى 1300 جنيه للإردب.

في 2013 كانت الحكومة تشتري إردب القمح بسعر 400 جنيه، وكان سعر الدولار 6 جنيهات. اليوم وصل الدولار إلى 18.5 جنيها، وهو ما يعني أن سعر الدولار زاد ثلاثة أضعاف. وبالمثل، يجب أن يزيد سعر القمح بمعدل ثلاثة أضعاف ليكون 1200 جنيه للإردب، وليس 885 جنيها. حاليًا، وصل سعر القمح الأمريكي إلى 11 دولارا للبوشل (27.2 كيلوغراما)، وهو ما يعادل 1300 جنيه للإردب.

من زاوية أخرى، فإن سعر الذرة الصفراء الذي يشتريه الفلاح لتغذية المواشي وصل إلى 7700 جنيه للطن، وهي مفارقة لا توجد إلا في مصر، حيث يزيد سعر العلف على سعر القمح والخبز أيضا. وهل مطلوب من الفلاح الذي تعب واجتهد وأنتج أفضل قمح في العالم أن يبيعه بسعر بخس ويشتري العلف بسعر أعلى؟! الفلاح يقول إنه سيستخدم القمح الرخيص علفا للمواشي بدلا من الذرة، وبالتالي ستفشل الحكومة بلا شك في شراء الكمية المستهدفة من القمح المحلي.

ليس سرّا أن الدول المصدّرة للقمح وصلت جميعها إلى عتبة التصدير بدعم المزارعين بالتقاوي والأسمدة وبالسعر المحفز للمحصول. وليس خافيا أن التوريد الإجباري والسعر البخس في مصر كانا -وما زالا- السبب الأكبر في إفقار مزارعي القمح وصرفهم عمدا عن زراعته إلى محاصيل أخرى أقل أهمية، بعضها هامشية، مثل الفراولة والخوخ والكاكي والبرسيم، وبعضها استفزازية مثل الكنتالوب وبطيخ لب التسالي. والنتيجة أن مصر أصبحت أكبر مستورد للقمح في العالم، وتعاني من أزمات خبز متكررة، بعضها كان سببا في إشعال أكثر من ثورة شعبية.

المصدر : الجزيرة مباشر