الإعلام الشعبي: من الهتاف الصامت إلى الضجيج المعلن

 

(1)

هزيمة 67 كانت بمثابة الزلزال للمصريين، فقدوا معها الشعور بالاستقرار والأمان، وعانوا من عدم الثقة في المستقبل والخوف من المجهول. في هذا التوقيت بدأ الدكتور سيد عويس أحد رواد علم الاجتماع في مصر، دراسة ظاهرة لفتت انتباهه وتفرد بها المجتمع المصري دون غيره، وهي كتابة عبارات على المركبات بكافة أنواعها، كانت بداية الدراسة أول سبتمبر 1967 واستمرت حتى نهاية أغسطس 1970. اعتبر عويس هذه الظاهر بمثابة إعلام شعبي يتضمن الكثير من العناصر الثقافية غير المادية في المجتمع المصري، إعلام جديد يدعو إلى تثبيت مفاهيمه في نفوس أعضائه، ويقابل الإعلام الرسمي الذي فقد مصداقيته. سافر عويس إلى كل محافظات مصر، وجمع مما كُتب على هياكل السيارات واللوريات وعربات المأكولات عبارات لها دلالة في نفوس الكثير من أعضاء مجتمعنا وتعبر عن أناتهم وآمالهم وأفراحهم وأتراحهم ودعاباتهم وأنماط تفكيرهم وعن بعض القيم التي يقدسونها. واعتبر عويس هذه الظاهرة بمثابة محاولة للتعبير الصامت، وبلغة اليوم فهذه العبارات كانت بمثابة “البروفايل” والشعار الذي اختاره مالك المركبة أو سائقها لتكوين صورة لنفسه أمام الآخرين. ولقد نشر الدكتور سيد عويس هذه الدراسة في كتاب بعنوان: “هتاف الصامتين.. ظاهرة الكتابة على المركبات في المجتمع المصري المعاصر”.

(2)

مواقع التواصل تغير السلوكيات والقيم المجتمعية المستقرة

مر على هذه الدراسة الاجتماعية الفريدة من نوعها أكثر من نصف قرن من الزمان، تغير خلاله العالم بصورة غير مسبوقة وبسرعة لم تعتدها البشرية، ثورة الاتصالات جعلت العالم قرية صغيرة يعيش سكانها نفس الأحداث ويتأثرون بذات الأخبار ويقلد بعضهم بعضًا دون إدراك لتفاصيل الاختلافات وأهمية المشتركات، وكان من توابع ثورة الاتصالات ظهور منصات التواصل الاجتماعي ودخول الملايين من البشر بكامل إرادتهم العالم الافتراضي الجديد بسرعة مدهشة وبأعداد هائلة، وأشهر تلك المنصات: فيسبوك، ويوتيوب، وإنستغرام، وتيك توك، ومعظمها يدفع بسخاء لأصحاب الحسابات التي يتابعها الملايين وتحصد كتاباتهم وصورهم وفيديوهاتهم ملايين الإجابات، وهؤلاء المشاهير يجنون ثروات أيضا من الشركات التي ترغب في الاستفادة من أعداد متابعيهم في الترويج لسلعها من خلال حساباتهم. طريق جديد للثروة لم يخطر على بال إنسان قبل عقدين من الزمن، ثروات طائلة يجنيها مشاهير لا يقدمون لمتابعيهم سوى محتوى مثير جذاب وليس بالضرورة مفيدا أو له قيمة أو ضرورة، وبسبب قواعد لعبة الثراء الجديدة، تغيرت السلوكيات والمفاهيم والقيم عند أغلبية متابعي هذه المنصات، فتراجعت قيمة “الستر” أمام الهدف  الواحد والوحيد وهو حصد “اللايكات” وزيادة عدد المتابعين، وأصبحت فكرة “البحث عن فضيحة” وتقديم الغريب والعجيب، حتى لوكان مخالفا للدين والعرف والقيم التي عرفتها المجتمع واستقرت في ضمائرها، هو الهدف لجمع المزيد من المال.

 (3)

ذكرت بعضا من النتائج السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي لكن هناك نتائج إيجابية بالتأكيد، فهذه المنصات تقدم أيضا المفيد والقيم، وتقدم فرصا للتعلم والاستفادة بمتابعة حسابات يقدم أصحابها علما ومعرفة وخبرات وتجارب مهمة فى جميع المجالات، كما أن كل المؤسسات العالمية والحكومات تستخدم الآن هذه المنصات للتعريف بنفسها ودورها وسياساتها وكذلك تفعل المعارضة والناشطون في مختلف المجالات. هذه المنصات تحولت، وخاصة في الدول التي لا تسمح أنظمة الحكم فيها بحرية التعبير، إلى إعلام شعبي ينافس بقوة الإعلام الرسمي بل يتفوق عليه في المصداقية وحجم المتابعة، أصبحت هذه المنصات أبواقا لمن يبحث عن فرصة للتعبير عن رأيه بعيدا عن أعين الأخ الكبير ومراقبته، ورغم أن هناك حكومات تراقب مواقع التواصل الاجتماعي وتلاحق أصحاب الحسابات المعارضين لها أمنيا وأحيانا تسجنهم جراء ما يقدمونه من محتوى معارض لها، فإن هذه الإجراءات في النهاية نتائجها محدودة وهناك دوما شخص جديد يظهر بديلا عن من تم سجنه أو تهديده أو إيقاف حسابه.

(4)

الحاجة إلى دراسة اجتماعية جديدة

عرّف عالم النفس إريك إريكسون الهوية الشخصية بأنها الوعي الذاتي ذو الأهمية بالنسبة لاستمرارية الشخصية، وفلسفة الحياة التي يمكن أن توجه الفرد وتساعده على الاختيار بين إمكانيات متعددة، وكذلك تُوجّه سلوكه الشخصي. أما الهوية القومية فهي معنية بالخصائص المشتركة التي تجمع أبناء وطن قومي واحد، وهي مستمدة من العادات والتقاليد والثقافة والتاريخ.. إلخ. ولا تتعارض مع تفرد الهوية الشخصية وتميزها، فهي وعاء أكبر يستوعب الاختلافات الشخصية ويركز على المشتركات، وتعد إحدى المرجعيات المهمة للحكم على الصواب والخطأ في مجتمع ما في عصر ما، كما أنها قابلة للتعديل والتطور. هذا التعريف يقفز إلى ذهني حين أتابع مواقع التواصل وأشاهد عددا كبيرا من الفيديوهات المقدمة فيها التي تثير في نفسي علامات تعجب كثيرة، وأسأل نفسي عن ما تبقى من الشخصية المصرية والهوية القومية، وأتصور لوكان الدكتور سيد عويس حيًّا بيننا الآن لقدم لنا بالضرورة دراسة عن هذه الظاهرة، فلم يعد الهتاف صامتًا ولم يعد التعبير عن الذات يكتب في عبارات ساكنة بلا حراك على المركبات ولكن أصبحت هناك حالة من الصخب يختلط فيها الحابل بالنابل والغث بالسمين، في ظل حالة من عدم اليقين وغياب المعايير المشتركة بين أفراد المجتمع المصري، الذي تعرض في السنوات الأخيرة لكثير من التقلبات والاضطرابات، مما أدى إلى خلخلة الثوابت وضعف اللحمة الوطنية، وهذا طبيعي ويحدث بعد الحروب والثورات والصراعات الأهلية، والمواطن المصري للأسف لم يعد يدرك مواطن قوته ليعلي من شأنها ولا نقاط ضعفه ليخفف من وقعها، ولا يفرق بين الخطأ والصواب؛ لأن منظومة القيم التي تحكم سلوكه غائبة وغائمة. وهنا تأتي أهمية الدراسات الاجتماعية التي تضع أيدينا على موطن الداء وأسبابه وقد تقترح وصفة للعلاج. ليست مصر وحدها التي تحتاج إلى مثل هذه الدراسة، بل يحتاج إليها الوطن العربي من الخليج إلى المحيط بعد أن أصبحنا نعيش عالما من الصخب والغصب الصارخ.

المصدر : الجزيرة مباشر