الأرز.. ارتفاع في الأسعار وتَخَبّط في السياسات!

تشتعل أسعار الأرز أيضا في مصر، رغم أنها مُنْتِج كبير لهذا المحصول الاستراتيجي، وتصل لحد الاكتفاء الذاتي منه.

والأرز، مع الخبز المُنْتَج من القمح -وهو السلعة الاستراتيجية الأهم- طعامان رئيسيان لعموم المصريين، الخبز دائمَا وأبدًا، والأرز دائمًا وغالبًا، فلا تخلو مائدة من رغيف الخبز في الوجبات، كما لا تخلو مائدة مرة في اليوم من طبق الأرز، ثم تأتي المكرونة بعد ذلك.

“لقمة” للإشباع.. وليس الرفاهية

لا يطلب المصري الكثير في معيشته، ولا يفكر في مائدة عامرة بأشهى وأطيب أنواع الطعام، فهذه رفاهية لا ترد على ذهنه من الأصل، هو باحث عن “لقمة” تحقق له الإشباع، أو طبق أرز مطبوخ ولو بالماء وقليل من الطماطم والسمن والزيت.

لا أظن أن شعبًا مثل هذا يمثل عبئًا على سلطة الحكم فيه، فهو لا يطلب المستحيل أو الصعب، فلا يفكر في لحم الواجيو (لحم بقري مميز)، أو الجمبري (الروبيان)، أو لحم طير السمان، أو الحمام، أو الديك الرومي، أو سمك السلمون، أو السيمون فيميه، رغم أن هذا حقه، وأنه يستحق أكثر من هذا. فهل يصل به الحال يومًا إلى وجود مشكلة في تدبير رغيف الخبز وطبق الأرز؟

إذا كانت الحكومة لا تزال تدعم الخبز البلدي (الرغيف بـ5 قروش)، وبغض النظر عن عدم جودة هذا الرغيف بسبب غياب الرقابة، فإن هذا الدعم قد يكون عُرضة للعصف به في أي لحظة قادمة، فقد قيل: ليس معقولاً أن يكون 20 رغيفًا بجنيه واحد، وهو ثمن سيجارة.

وهذا ليس معقولًا فعلًا، لكن ليس معقولًا كذلك ألا يكون هناك أي صلة بين دخل الفرد في مصر ومستويات الدخول العالمية، ثم يكون هذا الفرد مُطالبًا بشراء السلع والخدمات بأسعار عالمية، فعندما ترتفع الدخول وتقترب من العالم، هنا يمكن شراء الرغيف بجنيه أو اثنين أو خمسة.

الأزمة وارتفاع السعر

في معرض السلع الرمضانية الذي أقامته الحكومة مؤخرًا، كان سعر كيلو الأرز يتراوح بين 10 جنيهات، و13 جنيهًا، ووقتها لم أجد اختلافًا سعريًّا مغريًّا بين سلع المعرض، وبين نظيراتها في البقالات، لكن اليوم أسعار الأرز ارتفعت حتى باتت أسعار المعرض معقولة مقارنة بالقفزات السعرية الجديدة، وكأن هناك تنافسًا محمومًا لرفع الأسعار كل يوم، وبأي وسيلة.

سعر كيلو الأرز وصل إلى 16 و17 جنيهًا في البقالة، وكانت المفاجأة أن نائبًا من حزب مستقبل وطن (ذراع السلطة) يُدعى السيد شمس الدين قدم طلب إحاطة لوزير التموين -تفاصيله منشورة بالصحف- عن ارتفاع سعر كيلو الأرز إلى 25 جنيهًا في بعض الأماكن.

الأزمة كانت متوقعة

السياسات العامة لا تزال غائبة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وجاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتعيد التذكير بقصور الخطط تجاه هذا المحصول الاستراتيجي، الذي يمثل قضية أمن قومي جادة وحقيقية وخطيرة.

والسياسة العامة في الأرز -وهو المحصول الاستراتيجي الموازي للقمح- متخبطة، رغم أن مصر منتِج كبير لهذه السلعة، فكيف يحدث التخبط؟

كنت أتوقع حصول أزمة في الأرز، ففي موسم 2021 تشددت الحكومة في منع زراعته في 18 محافظة، بمبرر الحفاظ على المياه، باعتباره من المحاصيل الكثيفة الاستهلاك للمياه، ودوريًّا تنبه الحكومة إلى عدم زراعة الأرز في محافظات بعينها؛ في الصعيد كله، وعدد من محافظات الدلتا، لكنها كانت تغض الطرف عن التوسع في تسجيل المخالفات لمن يزرع، أو إقرار الغرامات على المخالفين، والوجه الإيجابي هنا أن المحصول المُنتج في هذه المحافظات كان يكفي استهلاكها، وبالتالي تبقى الأسعار تحت السيطرة.

العام الماضي، كان سيف التحذير مُشهرًا، وتسجيل المخالفات جاهزًا، علاوة على قيام الحكومة بسلوك غير مسبوق، وهو تحصيل غرامات زراعة الأرز التي كانت نائمة في الأدراج، منذ عام 2014 حتى عام 2020، وواقعيًّا كان يتم تسجيل مخالفات على المزارعين، ثم تتجاهلها الحكومة بحجة أن الموسم انتهى، واستهلاك المياه لم يتأثر، والاكتفاء من الأرز تحقق، والأرض تطّهرت، والفلاح استفاد بمحصول يعينه في طعامه، ويبيع ما يفيض عن استهلاكه.

لكننا اليوم أمام عقل أحادي في التفكير، لا يتمتع بالمرونة، ولا المواءمات السياسية والشعبية، لا يوجد عقل، مثل الراحل كمال الشاذلي، وهو يدير مثل هذا الملف في البرلمان، ومع الحكومة، علمًا بأن طائفة الفلاحين هي الأكثر معاناة، لارتفاع تكلفة الزراعة بشكل هائل، وتراجع العائد منها، لهذا يتم هجر الأرض، أو تبويرها، أو بيعها، في حين أن الزراعية هي صلب مشروع التنمية، وهي حياة أي بلد وشعب.

ري الأرز بمياه مدفوعة

وفي المنطقة التي أعيش فيها لا يعتمد المزارعون على مياه النيل، وحصة المياه قليلة ومحددة بأيام معينة، ولهذا يقوم أصحاب الأراضي بحل المشكلة على نفقتهم، بحفر آبار مياه جوفية، لري المحاصيل، وهي مُكلفة في حفرها وتشغيلها.

وهم يقومون بري الأرز بهذه المياه، وليس مياه النيل الشحيحة، التي تواجه البلاد فيها النقصان، بسبب سد إثيوبيا.

عدم زراعة الأرز في محافظات معينة ظهرت نتائجه في الشهور الأخيرة، بعد تراجع المخزون لدى الحكومة والأهالي، وهنا يظهر المستغلون والمحتكرون والانتهازيون ومن يديرون وهم جالسون في مكاتبهم ومعزولون عن الواقع المَعيش، وستكون النتيجة الطبيعية الإخفاقات والأزمات، وهذا حاصل في سلع ومحاصيل وقطاعات ومرافق وجهات وقضايا عديدة، والقمح والأرز مثالان لذلك.

تجاهل صوت المزارعين

الحكم ليس قرارات فوقية، القرارات تنبع من الشارع، وتصدر وفق متطلبات واحتياجات الناس.

هل استمع أحد للمزارعين، قبل قرار الحكومة، بحرمان عدد من المحافظات من زراعة الأرز؟

لم يحدث ذلك بالطبع، والنتيجة ندرة السلعة، وارتفاع سعرها، ثم يكون رد الفعل العكسي هذا العام، قيام الفلاحين باستئناف زراعة الأرز بتوسع، وعدم الانصياع لأي تحذيرات، وتجاهل تسجيل المخالفات.

المصدر : الجزيرة مباشر