أليس لهذه “الشماعة” من نهاية؟!

يناير بريئة من الأزمات

لم تكن ثورة 25 يناير 2011، صانعة أزمات مصر كلها أو بعضها قديمها أو جديدها، ولم تكن وراء تزايد الديون الخارجية والداخلية لأرقام غير مسبوقة، أو استمرار تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية خاصة الدولار، أو الغلاء الفاحش، أو بناء سد إثيوبيا، أو اتفاقية تسليم تيران وصنافير، أو مساوئ التعامل بين الناس، وتدني الأخلاق.

نحن عشنا فترة الثورة ونعيش ما بعد انتكاستها، ولنا عقل يعي ويفكر ويقارن ويتوصل لاستنتاجات دقيقة وواقعية وكلها تصب في خانة براءة الثورة من كل الأوزار التي تلت طي صفحتها، ويتم رميها عليها دائما، فليس هناك من يعترف صراحة بأن معظم الإخفاقات هي ابنة غياب التخطيط، وفقدان الرؤية، وعدم سلامة ترتيب الأولويات، في إدارة حقبة ما بعد عزل مرسي؛ لهذا يتم الهروب للأمام باستحضار ثورة يناير، وتحميلها الإخفاقات.

بل نقول مثلما أن هناك حنينًا شعبيًّا إلى مرحلة مبارك خاصة في البعد الاجتماعي والمعيشي، فإن حنينًا مماثلًا يأخذ الناس إلى فترة ما بعد يناير، بل يمتد الحنين إلى عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، فقد كانت الحياة في هذه المراحل أكثر حنانًا ورحمة من المرحلة الحالية التي أصبحت شديدة الصعوبة، وصار منحنى القسوة الاجتماعية فيها يتصاعد.

الاعتراف بالأسباب الحقيقية للأزمات

أقصر طريق للوصول إلى الحقيقة هو شجاعة الاعتراف بالأسباب الحقيقية والواقعية للأزمات، وليس محاولات الإفلات منها. الرئيس الفرنسي ماكرون قال قبل أيام في خطاب الفوز، إنه يدرك أن هناك ملايين انتخبوه ليس حبًّا فيه، وإنما قطعًا للطريق على زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان حتى لا تدخل قصر الإليزيه، واعترف بحدوث أخطاء خلال فترته الأولى، ووعد بأن يكون رئيسًا لكل الفرنسيين، وإصلاح كل الأخطاء، وتجاوز كل الإخفاقات.

لماذا لا يكون هناك خطاب مماثل يتحدث عن الأخطاء حتى ولو لم تكن مقصودة، ويقدم كشف حساب دقيقًا عن مسار تسع سنوات من حكم ما بعد يناير الذي ابتدأ بإطاحة الإخوان، للتوقف أمام مساحات عدم النجاح، والسياسات غير الناجعة، والخطط المرتبكة، والأولويات المتعجلة، والإنفاق الواسع في غير أماكنه، والاستدانة الكارثية، وذلك بهدف العلاج والتصحيح والإنقاذ، بدل استمرار الغوص في سياسات الرمال المتحركة المهلكة.

إذا كانت سردية (الاختيار3) تجاهد لإثبات أن ما جرى هو الصحيح، وإذا افترضنا أنه كذلك، فماذا بعد هذا الذي جرى؟ وماذا بعد الفرح بزوال الغمة ومجيء الإنقاذ؟ أظن أن عشرية كاملة تقترب من اكتمالها تقول إنه ينبغي البحث السريع والعاجل في أسباب ما آلت إليه الأوضاع العامة من أزمات لها جوانب خطر كامنة على الحاضر والمستقبل.

 ثورة دون فوضى أو فراغ بالحكم

ثورة مصر كانت نموذجية، فهي ابتداءً لم تستمر طويلا، 18 يوما فقط، وهذا وقت قصير جدا في عمر الدول، ولم يسمح مطلقا بحدوث فوضى عامة وشاملة أو تعرض الدولة للتداعي والتآكل والسقوط أو التفتت، كما حصل في سوريا وليبيا واليمن.

ولم يحدث فراغ في الحكم، ولم تقع ارتباكات وانهيارات في دولاب عمل الدولة، أو انتظام الحياة، ولم تتوقف حركة الاقتصاد والتجارة والتوزيع والبيع والشراء والعمل، قد يكون النشاط العام تعثر بعض الشيء، لكنه واصل حركته ولم يتوقف تماما.

يجب أن نتعامل مع الثورة بشفافية وعدالة وتجرد، ولا ينبغي اعتبارها شماعة أو مشجبًا، فهي كانت ومضة عابرة، أعلنت انتصارها، وفي يوم الانتصار بدأ العد التنازلي لسلب ابتسامتها وأهدافها وروحها، واستعادة أوضاع ما قبلها، ودفع كل من تفاعل معها من عامة الشعب إلى القلق منها، والندم على وقوعها.

المشكلة في إدارة ما بعد الثورة

المشكلة ليست في الثورة، وإنما في إدارة ما بعد الثورة، وظني أن جانبًا من هذه الإدارة ساهم في تشويه فكرة الثورة، الفكرة نفسها، والمعنى ذاته، بحيث يتم الربط بين الثورة كفكرة وحلم للتغيير عندما تُوصد كل أبواب التغيير الطبيعية، وبين الأزمة الشاملة التي لا تترك أي منحى من مناحي الحياة.

من يحكمون منذ خطاب تنحي مبارك وحتى اليوم هم المسؤولون جميعا عما وصلت إليه البلاد من انسدادات، والثورة نفسها لم تحكم عاما بل ولا يوما واحدا، وعام مرسي في الحكم لا يمكن اعتباره حكم الثورة، يمكن القول إنه حكم رمزي للثورة، فقد تصدى للحكم التنظيم الأقوى والأضعف في نفس الوقت، أقوى بحكم العدد والتنظيم البشري والقدرة على الحشد، لكنه أضعف في تاريخه الصدامي مع مؤسسات القوة في الدولة، وأضعف في عدم وجود حائط يستند عليه في الدولة العميقة، وأضعف في أن حائطه الثوري ابتعد عنه، وأضعف وأحمق في مراكز تفكيره وسياسته، واندفاعه لحقل ألغام وهو عديم الخبرة كثير الكلام فقط.

الدولة لم تهتز أركانها يوما، والحياة لم تتعطل فيها ساعة، الثورة كانت في ميدان التحرير، وأحيانا في ميدان نهضة مصر للإسلاميين، عندما تم حرمانهم من دخول التحرير، فماذا تمثل هذه الأمتار من أرض مصر مقارنة بمساحتها التي تزيد على مليون كيلومتر مربع كانت كلها حياة وحركة ونشاطا؟

اسأل عن الحكم والحكومة، واسأل عن الخطة والمُخطِّط، واسأل عن فلسفة ورؤية الحكم، والمحددات والبرامج في السياسة والاقتصاد والمعيشة والإنتاج والزراعة والتصدير، واسأل عن تسع سنوات من الحكم الحالي، والدعم العربي والدولي الهائل له، والاستدانة الخارجية التي فاقت مئة مليار دولار.

لا يناير، ولا الزيادة السكانية، ولا الاحتياطي النقدي الذي تآكل جزء منه، ولا كورونا، ولا حرب روسيا وأوكرانيا، ولا حتى الإرهاب رغم مخاطره الكبرى، هي أسباب وحيدة ومقنعة وواقعية وحقيقية بالكامل للحالة التي وصلنا إليها، هي لها دور ما، لكنه ليس الدور كله، ولا المبرر كله، ولا الشماعة كلها.

المصدر : الجزيرة مباشر