هرولة المثقفين.. الأسواني نموذجًا

د. علاء الأسواني في مظاهرات مناهضة للرئيس محمد مرسي (27 نوفمبر 2012)

 

اكتسب مصطلح الهرولة طابعا سياسيا سلبيا منذ أطلقه وزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى على مسارعة دول عربية عدة إلى إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل عقب توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 الذي أنتج سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، ورغم أن الملك الأردني السابق الحسين بن طلال رد الصاع صاعين إلى موسى بإعلانه أن مصر كانت أول المهرولين فإن ذلك لم يغيّر المعنى السلبي للمصطلح الذي قصده موسى.

هرولة دول عربية نحو إسرائيل لم تقتصر على موجتها الأولى عقب توقيع اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنها ظهرت مؤخرا في موجة تطبيع جديدة تواكب حالة الانكسار العربي الحالية.

حائط صد ثقافي ضد التطبيع

كانت الجماعة الثقافية المصرية -ولا تزال- حائط صد منيع أمام نشر ثقافة التطبيع، وقفت أمام الموجة الأولى والثانية، وقدّمت نموذجا نضاليا لباقي المثقفين العرب، قاومت النخبة الثقافية المصرية في مجملها الإغراءات الكبيرة التي لوّح بها المجتمع الدولي للمطبعين، لكن أفرادا منها شذوا عن هذا الإجماع سواء عقب زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لإسرائيل التي صحبه فيها المخرج الكبير حسام الدين مصطفى، أو خلال موجة الهرولة التي أشار إليها عمرو موسى التي شملت زيارة خاصة للكاتب المسرحي علي سالم (مؤلف مسرحية مدرسة المشاغبين) لإسرائيل عام 1994، أو خلال الموجة الجديدة التي برز فيها اسم الأديب علاء الأسواني، ومن قبله الكاتب والدبلوماسي السابق عز الدين شكري فشير الذي دافع بشدة عن وجود علاقات رسمية طبيعية مع إسرائيل.

الصدمة في علاء الأسواني كانت هي الأكبر، بحكم حضوره الثقافي والسياسي الكبير خلال ثورة يناير وحتى الآن، وانتقاله إلى خط المواجهة للنظام الحالي في مصر بعد أن دافع عنه كثيرا، ونفى أن يكون انقلابا، وقد دفع الأسواني ثمنا لموقفه الجديد ضد النظام اغترابا قسريا عن مصر، ويبدو أن هذا الاغتراب أنساه موقفه السابق ضد التطبيع، وأيقظ حلمه القديم في الحصول على جائزة نوبل في الأدب التي سبقه إليها الأديب المصري نجيب محفوظ.

الطريق إلى نوبل عبر تل أبيب

يدرك الأسواني أن الطريق إلى نوبل يمر عبر “تل أبيب”، ورغم أنه قاوم هذا الإغراء من قبل فإنه لم يستطع الصمود كثيرا، فاستغل ترجمة روايته الجديدة (جمهورية كأن) إلى اللغة العبرية ليعبر من خلالها هذا الطريق الوعر، وقبل أن يتحدث لإذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي عن روايته الجديدة وأشياء أخرى متجاهلا مشاعر الغضب العربي والعالمي بعد مقتل الإعلامية شيرين أبو عاقلة برصاص الاحتلال، وحين ثارت عاصفة قوية ضده سارع إلى نفي التعامل مع أي وسيلة إعلام إسرائيلية، ملقيا بالمسؤولية على وكيله الأدبي الذي رتب تلك المقابلة دون أن يعرف هو أنها لصالح إذاعة إسرائيلية!! ومتجاهلا تصريح الصحفي الإسرائيلي الذي أكد تواصله مع علاء شخصيا وليس فقط عبر وكيله، وأنه -أي علاء- طلب منه إرسال الأسئلة مكتوبة إلى وكيله حتى لا يكون الحوار وجها لوجه.. أي استخفاف بالعقول أكثر من هذا يا دكتور علاء؟!

تبدو جائزة نوبل أهم من كل القيم والمبادئ، بل أهم من الأوطان، وأهم من دماء الشهداء التي سالت على الأرض المصرية والعربية لدى علاء الأسواني، ومن سبقه أو سيلحقه على هذا الطريق، وبالتالي فلن نُفاجَأ بالمزيد من الانزلاقات والهرولة، فمقابلة واحدة مع إذاعة جيش الاحتلال ليست كافية لتزكيته لنيل الجائزة، ولن نُفاجَأ برقصة “الإستربتيز” من علاء ثمنا لتلك الجائزة، التي قد لا تأتي أيضا كما حدث مع سلفه علي سالم.

شذوذ يؤكد القاعدة

الشذوذ يؤكد القاعدة، وقد شذ عن قاعدة المثقفين المصريين عدد قليل قبل الأسواني، وقد أشرنا إلى بعضهم مثل حسام الدين مصطفى، وعلي سالم، وعز الدين شكري، ونشير أيضا إلى لطفي الخولي أحد رموز الفكر القومي الذي تحول إلى داعية للتطبيع، والمؤرخ ماجد فرج الذي زار تل أبيب في مايو/أيار 2015، ونائب رئيس تحرير الأهرام السابق رضا هلال المختفي منذ العام 2003، وزميلته في المؤسسة ذاتها هالة مصطفى، والكاتب الصحفي حسين سراج رئيس تحرير مجلة أكتوبر الأسبق الذي منعته نقابة الصحفيين لعدة أشهر من الكتابة عقابا له، ويذكّرنا ذلك بموقف نقابة الصحفيين والنقابات الفنية المصرية، بل وكل النقابات المهنية، الرافض للتطبيع، حيث أصدرت جمعياتها العمومية قرارات تجرّم ذلك على أعضائها، لقد كنت شخصيا شاهدا على إحدى محاولات تغيير ذلك الموقف الاستراتيجي لنقابة الصحفيين حين كان مكرم محمد أحمد نقيبا للصحفيين في إحدى الدورات، ولكن الجمعية العمومية أحبطت تلك المحاولة، وجددت موقفها الرافض للتطبيع، وإن حدثت له بعض الخروق كما أشرنا لكنه ظل خطا ثابتا للنقابة وأعضائها.

رغم مرور نحو نصف قرن (تحديدا 45 عاما) على زيارة السادات لإسرائيل، وتوقيعه لاحقا معاهدة سلام معها فتحت طريقا لتطبيع العلاقات في كل المجالات، إلا أن التطبيع ظل قاصرا على الشكل السياسي الرسمي، وكان لافتا أن الوسط الثقافي نافس الوسط الديني في رفضه للتطبيع، حتى إن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني هدد بحرق أي كتب لإسرائيل في مكتبة الإسكندرية، وهو ما حرمه من رئاسة منظمة اليونسكو لاحقا، ورغم موجة الهرولة الأخيرة نحو التطبيع فإن الحالة الشعبية لا تزال على موقفها الرافض عموما، ونادرا ما يستطيع أي سائح أو زائر إسرائيلي لمصر أن يتجول بشكل علني وباطمئنان في شوارعها.

المصدر : الجزيرة مباشر