خطورة خلط مسائل الفروع الفقهية بأصول العقيدة

الملاحظ للنقاشات الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى مستويات دينية مختلفة، يجد خطأ كبيرا يحدث في هذه النقاشات عن قصد أو عن غير قصد، وهو جر النقاشات في مسائل علمية كانت تناقش في تراثنا الإسلامي في سنوات مضت منذ عقود، دون هذا العنف اللفظي الدائر، والسبب الرئيس في هذا المستوى من التشدد في الحوار والنقاش هو خلط مسائل من مسائل الفروع الفقهية، ونقلها إلى مسائل العقيدة والثوابت، مما يجعل من يناقشها يحتد، لأنه يتصور أنه يدافع عن العقيدة، وعن ثوابتها التي يجب عليه أن ينافح عنها بكل قوة ولو أدى ذلك إلى حدة في الأسلوب والنقاش.

فهناك قضايا ستراها تثار في مواسم معينة، أو مناسبات محددة، مثل تهنئة غير المسلم بأعياده، والترحم عليه، وقضية الحكم في الإسلام، والاحتفال بالمولد النبوي، إلى آخر هذه القضايا التي تثار كل فترة، وهي نماذج فقط لما نلاحظه في الآونة الأخيرة من النقاشات، وليست المشكلة في إثارتها ونقاشها نقاشا علميا يتسم بآداب وأخلاق الاختلاف والحوار الفقهي والعلمي.

كيف نميز بين الأصول والفروع؟

ما جرى هو أن هناك مسائل جرى تحويل مسارها من مسائل فقهية إلى مسائل عقدية، وهو خطأ منهجي كبير، أما كيف نميز بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة، فالأمر مستقر علميا ومعروف لدى كل باحث وفقيه، فالعقيدة تنقسم مسائلها إلى: أصول، وفروع، فكل مسألة يحكم فيها بإيمان أو كفر من يقوم بها، فهي من قضايا أصول العقيدة، وكل مسألة يحكم فيها بحلال أو حرام، فهي من قضايا الفروع سواء في العقيدة أو الفقه، وقضايا فروع العقيدة هي قضايا فقهية في معظمها.

وهذا المعيار ليس تقليلا من أهمية مسائل تطرح، قد يرى القارئ أو الجمهور أنها مهمة، فلا علاقة لأهميتها بمكانتها ودرجتها في التشريع الإسلامي، وهل هي في باب العقيدة وأصولها التي يكفر فاعلها أو يؤمن، فليس شرطا لأهمية مسألة ما أن تكون من الثوابت وأصول العقيدة.

تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

من هذه القضايا قضية تثار كل عام مرة أو مرتين حسب أعياد غير المسلمين، فكلما كتب أحدهم تهنئة لهم، تخرج أصوات تذكره بأن هذا الفعل هو رضا بعقيدتهم، وهو مخرج من الملة، وهو أمر لم يقل به أحد من المجيزين أو المحرمين من العلماء، فالموضوع يتم نقاشه في جواز أو عدم جواز التهنئة، فهي قضية دائرة بين التحريم والجواز، فلا علاقة لها بالكفر والإيمان، بل لها علاقة بباب العلاقات الاجتماعية، وحدود ما يجيزه الشرع في ذلك، فمن يجيزها يدخلها في باب البر، ومن يحرمها يدخلها في باب ما لا يجوز البر فيه.

الحكم والدولة في الإسلام

ومن القضايا التي جرى تضخيمها قضية الحكم في الإسلام، فقد قوبل التوجه العلماني الرافض لوجود الإسلام في الحكم، بتوجه مقابل يواجه تعنته، فخرجت أصوات تنادي بأن الحكم في الإسلام هو من عقيدتنا الإسلامية، وقد جرت هذه الكلمة في العصر الحديث على لسان الشيخ حسن البنا رحمه الله، فقال: “والحكم عندنا معدود في باب العقائد”، ففهم الكثيرون من المتدينين من ذلك أن الحكم عقيدة لدى المسلمين، وقد كان يقصد بذلك أنه من فروع العقيدة، أي من باب الحلال والحرام.

فرغم أهمية قضية الحكم في الإسلام، فإنها لا ترقى إلى أن تكون في باب العقيدة، إلا عند المذهب الشيعي فقط، فقد جعلوا الإمامة من قضايا أصول العقيدة، لكن أهل السنة جميعا يعتبرونها من قضايا الفروع، وهي في كتب السياسة الشرعية، لكنها دخلت كتب العقائد من باب الرد على الفرق الإسلامية الأخرى، مثل: الشيعة، والخوارج، وغيرهم، لأنها كانت سببا للخلاف ونشأة الفرق، ولكنها في حقيقتها ليست من قضايا أصول الاعتقاد.

الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

وقضية الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أيضا قضية خلافية، وهي في باب الأيمان في الفقه الإسلامي في كل المذاهب الفقهية، وليست داخلة في باب أصول الاعتقاد، لأن صاحبها لا يقصد بذلك تعظيم غير الله تعظيم العبادة، فهي من باب الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، ورغم منع جمهور العلماء للحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الحنابلة عندهم رأي بالجواز.

المسح على الخفين

ومن القضايا التي أدخلت في كتب العقيدة، رغم أنها مسألة فقهية محضة المسح على الخفين، فقد رأينا الإمام الطحاوي يذكر المسألة في اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي مسألة كما نرى تتعلق بفقه الطهارة لدى المسلم، وليست مسألة تميز بين المسلم وغير المسلم، وقد أدخلها الطحاوي وغيره من باب مخالفة الشيعة، لأنهم لا يرون المسح على الخفين، ورغم ما ورد من أحاديث أوصلها عدد من العلماء حد التواتر، فإنها لا تدخل في باب العقائد كما بينا، وقد حاول البعض تبرير ذلك بأنه من باب إنكار المتواتر، لكن المسألة هنا دخلت في سياق آخر، وهو إنكار المتواتر بوجه عام، وكان يمكن طرحها في هذا الإطار، وليس إطار مخالفة الشيعة.

قضايا التشبه بغير المسلمين

ومما يدخل في هذا السياق، ما نراه عند كثيرين من المشايخ والدعاة، فيدخل كل مظاهر التشبه بغير المسلم، سواء في الزي، أو قص الشعر، أو في أمور العادات، يدخلها في باب العقيدة، من باب مخالفة غير المسلمين، وهي قضايا كما نرى تدخل في باب ما يجوز وما لا يجوز، وليست في باب اتخاذ غير المسلمين مشرعين له في دينه وحياته، فلم يقل ذلك أحد من المتشبهين، ولم ينو ذلك، بل كلها من باب التأثر بالمشاهير، وعادات الآخرين من الغربيين، وليست هناك مشكلة أن تناقش في هذا الباب، لكن ما يحدث من خطأ هو جر المسألة إلى باب العقيدة.

هذه نماذج ذكرتها، بسبب ما يثور من نقاشات كلما جاءت مناسبة لمثل هذه القضايا، فيشعرك المتحدثون فيها بأننا في حرب للدفاع عن العقيدة الإسلامية، وأن الإسلام في خطر، بينما المسألة كما نرى لها دائرة ودرجة في التشريع، ليس تقليلا من قيمتها والاهتمام بها، ولكن للتنبيه على خطورة نقلها إلى مستوى آخر، لأنه يفتح بابا لعنف لفظي ونقاشات تخرج بالموضوع عن إطاره الحقيقي في الدين.

المصدر : الجزيرة مباشر