تجارب “الحوار الوطني” بين الجد والهزل

أعضاء الرباعية التونسية مع رئيس وزراء النرويج بعد فوزهم بجائزة نوبل

 

دعوة الحوار الوطني المصري التي انطلقت مؤخرًا لم تكن الأولى في ظل النظام القائم، ولا في مسيرة الحكم المصري منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، كما أنها ليست منبتّة الصلة عمّا شهدته دول عربية أخرى من دعوات حوار أخيرة، أو في سنوات وعقود ماضية كان بعضها جديًّا، ووصل إلى نتائج عملية، وكان بعضها هزليًّا استهدف كسب الوقت واللعب بالأطراف المعارضة.

الحوارات الهزلية كانت هي الأكثر على امتداد الوطن العربي بعد الاستقلال، فمن مصر الناصرية إلى مصر الساداتية إلى مصر المباركية وصولًا إلى النظام الحالي، شهدت البلاد العديد من الحوارات الشكلية التي أرادتها النظم الحاكمة “ديكورًا” لما تريد تسويقه للشعب أو حتى للعالم الخارجي. ولكن ذلك لا ينفي حوارات جزئية مع بعض القوى السياسية، مثل حوار نظام الرئيس عبد الناصر مع الشيوعيين منتصف الستينيات الذي انتهى إلى حل الحزب الشيوعي وخروج المعتقلين الشيوعيين وإدماجهم في وظائف مهمة خاصة في قطاع الثقافة، وقد تكرر الأمر من نظام مبارك مع الجماعة الإسلامية وانتهى بخروج غالبية قياديي الجماعة وكوادرها من السجون، دون السماح لهم بعمل سياسي قانوني.

حوارات شكلية وأخرى جادة

تكررت “حوارات صورية” بين العديد من الأنظمة العربية والقوى المعارضة لها، وانتهت إلى “نتائج شكلية مؤقتة” لا تؤثر على تركيبة السلطة أو إمكانات التداول السلمي لها، حدث ذلك في ليبيا وسوريا واليمن والسودان والعراق وموريتانيا والمغرب و”تونس بن علي” إلخ.

لعل الأهم هنا هو تسليط الضوء على بعض تجارب الحوار الناجحة التي أحدثت تغييرًا حقيقيًّا في المشهد السياسي، ونشير إلى تجربة الجزائر التي أنهت العشرية السوداء، وحوار الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، والحوار الوطني في تونس 2013 الذي جنّب البلاد الانزلاق إلى العنف، ولا ننسى في هذا السياق حوارات وطنية أخرى لا تزال في منتصف الطريق مثل الحوار الليبي، أو أنها في مرحلة اختبار مثل الحوار اليمني الأخير الذي ضم 200 شخصية في الرياض، وانتهى إلى تسليم السلطة من الرئيس هادي إلى مجلس رئاسي جديد تشارك فيه كل المكونات اليمنية باستثناء الحوثيين.

المصالحة والسلم في الجزائر

الحالة الجزائرية هي الأكثر تشابهًا مع الوضع المصري، إذ بدأت بربيع جزائري سبق غيره في الوطن العربي مطلع التسعينيات بانتخابات برلمانية حرة فازت (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) بغالبية مقاعد جولتها الأولى فتدخّل الجيش وألغى الانتخابات، وفرض حالة الطوارئ، وهو ما تسبب في دخول البلاد عشرية سوداء استمرت حتى  مطلع الألفية الثالثة، وأسفرت عن مقتل 200 ألف جزائري، ولم تتوقف إلا بعد سلسلة من الحوارات الشاقة داخل البلاد وخارجها، انتهت إلى “ميثاق السلم والمصالحة” الذي قدّمه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لاستفتاء عام في 29 سبتمبر/أيلول 2005، ثم اتخذ شكل تشريع يحدد الفئات المستفيدة من العفو الكلي أو الجزئي، أو إرجاء تنفيذ العقوبات، وبموجب هذا الميثاق سلّم الآلاف أنفسهم للسلطات الرسمية ليستفيدوا بالعفو، ويعودوا إلى أعمالهم، بينما وفّر القانون حماية لأفراد الأمن الضالعين في مذابح تلك العشرية.

وظلت (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) محظورة قانونًا، وإن كانت لا تزال رقمًا مهمًّا في الحياة السياسية الجزائرية بطريقة غير رسمية، وكان لها دور كبير في الحراك الجزائري الذي انطلق في فبراير/شباط 2019، كما لا يزال لها نشاطها السياسي والإعلامي من خارج الجزائر، وتخطب الأحزاب الجزائرية ودّها طلبًا لدعمها عند أي استحقاق انتخابي.

لم يأتِ “ميثاق السلم والمصالحة” بشكل مفاجئ، فقد سبقه “قانون الوئام المدني” الذي أصدره الرئيس بوتفليقة بعد قليل من توليه الحكم عام 1999، والذي كان -بدوره- امتدادًا لقانون الرحمة، واللذين لم يحققا نجاحات كبيرة في إيقاف العنف.

مرت الجزائر بتجربة حوار وطني أخرى في يوليو/تموز 2019 على خلفية الحراك الذي انطلق في البلاد مطالبًا بإنهاء حكم الرئيس بوتفليقة، قاطعه العديد من القوى السياسية الرئيسية، وقد انتهى بإجراء انتخابات رئاسية، ثم وضع دستور جديد للبلاد شارك في الاستفتاء عليه أقل من 24% من الناخبين.

حوار تونسي يحوز “نوبل”

التجربة الثانية للحوار الوطني الناجح كانت في تونس في العام 2013، وسط صعود موجة الثورات المضادة للربيع العربي، التي كان لتونس منها نصيب، وقد انطلق الحوار عقب الاغتيال الغامض للزعيمين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وبدأ الحوار في أكتوبر/تشرين الأول 2013 برعاية الرباعي الذي حاز جائزة نوبل لاحقًا (الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين) وبدعم من الرئاسات الثلاث في تونس، وهم رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي ورئيسا الحكومة علي العريض والمجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر.

بعد سلسلة من الحوارات بمشاركة كل الأطياف السياسية تم التوصل إلى خارطة طريق للخروج بالبلاد من أزمتها، تضمنت المسارعة إلى التصديق على الدستور، ثم استقالة حكومة علي العريض، والتوافق على حكومة تكنوقراط جديدة، وقد جرى التصديق على الدستور بأغلبية كاسحة في يناير/كانون الثاني 2014، ثم شُكّلت حكومة جديدة مستقلة بالكامل -برئاسة مهدي جمعة- في 29 يناير 2014، وبذلك أنقذ هذا الحوار تونس لسبع سنوات أخرى من مصير الثورات المصرية واليمنية والليبية والسورية، حتى وقوع انقلاب قيس سعيّد في 25 يوليو 2021.

حوار الطائف ونهاية الحرب

أما التجربة الثالثة للحوار الناجح، فقد كانت الأسبق تاريخيًّا، وجرت وقائعها على أرض الطائف السعودية، وبرعاية حكومتها في العام 1989 بين الفرقاء اللبنانيين عقب حرب أهلية استمرت 15 عامًا، وقد أنهى الاتفاق تلك الحرب، وأكد سيادة لبنان على كل أراضيه بما فيها الجنوب الذي كان محتلًّا من إسرائيل، وأنهى الوجود السوري، وأعاد هيكلة السلطة، ووضع أساسًا لإنهاء (المحاصّة الطائفية) وإن لم يضع جدولًا زمنيًّا، لذلك استمرت حتى اليوم.

المصدر : الجزيرة مباشر