استشهاد شيرين أبو عاقلة.. صوت الحق لا يموت

شيرين أبو عاقلة

 

في الصباح الباكر، ليوم الأربعاء 11 مايو الجاري، وكنت لم أنم طوال الليل، لمحت خبراً عاجلاً عن استشهاد شيرين أبو عاقلة.

قلت، هذا اسم مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين المحتلة، وهي ليست كمثل أي مراسل بين طواقم العمل داخل فلسطين بالفضائيات العربية والأجنبية، لمهنيتها واحترافيتها وتميزها، وهذا ليس تقليلاً من أسماء وجهود وتضحيات الآخرين، فالمراسلون جميعاً، بالجزيرة وغيرها، أبطال بالكلمة الحرة، ومقاومون باللقطة المعبرة، هم في مقدمة المناضلين، لنقل الصورة كاملة وواضحة من داخل فلسطين، أخطر بقعة في العالم.

إرهاب دولة رسمي

في وجود الاحتلال الصهيوني الذي يمارس إرهاب الدولة الرسمي عمداً، لا حصانة أو حماية لأحد، كل الشعب الفلسطيني هدف للقتلة، وفلسطين تحولت إلى مقبرة كبيرة، فالكيان المحتل لا يعرف غير ثقافة القتل، وثقافة الموت، وليس ثقافة الحياة والسلام، لكن هذه المقبرة، وعلى غير إرادة الذئاب، تنبت أبطالاً جيلاً بعد جيلاً، صامدين مرابطين متمسكين بوطنهم وأرضهم حتى يتم استردادها وتحريرها وتطهيرها، فصاحب الحق أقوى دوماً من صاحب البندقية.

الصحفيون وفرق العمل الإعلامي ونشطاء المجتمع المدني هدف دائم للتضييق والرصاص والاغتيال بدم بارد من إسرائيل، كما حصل مع شيرين، وحصل منذ سنوات مع الناشطة الحقوقية الأمريكية الشهيدة راشيل كوري، إذ دهستها جرافة إسرائيلية، كانت تحتج أمامها على قمع الفلسطينيين، وتجريف أرضهم، واقتلاع زروعهم، وهدم بيوتهم، وفي مايو العام من الماضي قصف الكيان الكاره للحياة البرج الذي تقع فيه مكاتب قناة الجزيرة، وفضائيات وصحف أخرى، خلال عدوانه على غزة، وحصيلة الشهداء الذين قتلهم الاحتلال منذ مطلع القرن الحالي يبلغ 55 صحفياً.

 قتل مقصود

شيرين تعرضت للتصويب المقصود من قناص، كما تُجمع الروايات بشأن ارتكاب هذا العمل البشع، رغم أنها شخصية معروفة لدى المحتل، فهي تعمل في الميدان منذ ربع قرن، وكانت ترتدي سترة مكتوب عليها بوضوح كلمة صحافة، وبالتالي لا مبرر واحد لاستهدافها، وفي نفس الوقت فإن القاتل الإرهابي؛ سواء كان أفراد، أو كيان دولة، ليس بحاجة لمبرر أو سبب للقتل، فهو كيان مارق، ينتهك كل القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية، وهو منعدم الأخلاق، ومن أسف أن من بيدهم المساءلة والمحاسبة لجرائمه يوفرون له الحماية، وعلى رأسهم أمريكا.

أما العرب والمسلمون، وهم الضحايا الدائمون لفظائع المحتل، فإن أنظمتهم لا تزال ترقد في مستنقع الخنوع والتطبيع الذي يتسع للأسف! وهناك تخاذل في مواجهة التغول الصهيوني على فلسطين والقدس والمقدسات، وعليهم هم أنفسهم، وليس متوقعاً منهم أي تحرك فعال أمام الجرائم الفظيعة، إنما فقط بعض بيانات التنديد الهزيلة التي لا تساوي ثمن الحبر المكتوبة به، وهذا واضح في واقعة استشهاد شيرين، وألوف الفلسطينيين الذين سبقوها إلى الشهادة، ومن ينتظرون.

شعب.. مشروع شهادة

في البداية، تمنيت ألا تكون الشهيدة، هي شيرين، مراسلة الجزيرة، ثم قلت، في النهاية سيكون هناك إنسان فلسطيني عربي هو القتيل، هو الشهيد، لله در هؤلاء الفلسطينيون، إذ كلهم، دون استثناء، مشروعات شهادة في سبيل الله والوطن الحر، وكسر ذراع وأنف الاحتلال، والتأكيد له باستحالة محو قضية شعب حي.

هذا احتلال فاق إجرامه كل الاحتلالات الأخرى، احتلال استيطاني استئصالي للأرض والإنسان والتاريخ والجغرافيا والثقافة والفكر والمقدسات الدينية، وأحقاده تستهدف أصحاب الكلمة والكاميرا والموقف والرأي، وفي المقدمة منهم الصحفيون والإعلاميون في الميدان، لأنهم يفضحون جرائمه أمام العالم، وأكثر ما يزعجه أن يتم تركيز الأضواء عليه لكشف أكاذيبه وأساطيره المُؤسسة له، والمُفندة لرواياته اليومية للأحداث، بأنه بلد الديمقراطية والحريات والحقوق وسط صحراء من الديكتاتورية.

سبق وقلنا بأن الكيان المارق ينتهك كل القوانين والقيم والمبادئ الدولية والسياسية والأخلاقية، ولا شيء يوقفه عن مواصلة جرائمه طالما توفر له واشنطن حصانة خاصة من العقاب، مع ذلك فإن انزعاجه من الكاميرا، وممن يمسك بالميكرفون والقلم كبير، لأنهم يسقطون عنه صورة الدولة المتحضرة، وعندما تقوم شيرين وزميلاتها وزملاؤها بمحو هذه الصورة المزيفة أمام الرأي العام العالمي فإن الكراهية للصحفيين تستبد به، فيحاصرهم ويُضيق عليهم ويقتلهم أيضاً.

المطبعون العرب

هذه رسالة أخرى للمطبعين والخانعين العرب الذين يهرولون ناحيته، ويضعون أياديهم في أياديه المخضبة بدماء إخوانهم، ويجلسون معه، ويجتمعون بحضوره، ويتبادلون الصور واللقطات والابتسامات البلهاء وهو يتوسطهم، والأدهى أنهم صاروا ينددون بعمليات المقاومة والدفاع عن النفس ضده، ويتجرؤون على وصفها بالتطرف والإرهاب، هذا زمن معكوس، وهذه ممارسات رسمية عربية لا يمكن أن تكون طبيعية، أو تتسم بقليل من العقل والكرامة والشعور القومي العربي.

هؤلاء تبتلع أفواههم ألسنتهم، ويتدثرون بأغطيتهم، ويلوذون بالصمت إزاء استشهاد شيرين والفلسطينيين، وهذا مخجل، وعندما يصدرون كلمات استهجان فإنها تكون باهتة.

قتل الاحتلال لـ شيرين وهي مراسلة صحفية لا تحمل غير كلمتها الحرة الصادقة ومشاهداتها الواقعية في ساحات العنصرية والدموية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، ليس كاشفاً لشناعة هذا الاحتلال فقط، إنما تأكيد لما هو معروف من أنه لن يكون يوماً كياناً طبيعياً يمكن التعامل معه وقبوله، والتطبيع ما هو إلا محاولة لإخفاء الحقيقة.

 شيرين.. أسطورة

خيم الحزن على قلبي، وارتسمت علامات الألم على وجهي، فلا معرفة شخصية مع شيرين، إنما زمالة مهنة واحدة، رغم البعد المكاني، واختلاف العمل بين صحافة مكتوبة وصحافة مرئية، وقد نالت الكثير من الأوصاف الرائعة وهى تستحقها، فهي مراسلة من النوع الثقيل مهنياً، نشيطة ومتمكنة ولبقة ومتحدثة وواعية وفاهمة، لا تبحث عن الكلام في رأسها، فهي على استعداد للتحدث على الشاشة وقت طويل دون أن يمل أحد منها، ولا تكرر عباراتها، كل كلمة وجملة تقولها مختلفة عن سابقاتها، وتقدم جديداً فيها، لديها دوماً معلومات طازجة، وعندها تحليلات واضحة تجعل المتابع يفهم الموضوع الذي تتحدث عنه وفيه دون تعقيد، وقد توقفت باهتمام أمام وصف المتحدثة باسم البيت الأبيض بأنها أسطورة.

براعة مراسلي الجزيرة

تتميز الجزيرة عن غيرها من القنوات العربية المنافسة لها بأطقم مراسليها، هم من النوع القوي المحترف بالمقاييس العالمية، مراسلون ماهرون بارعون، ضمن أهم الأوقات على الشاشة خلال النشرات والاستضافات والمتابعات المفتوحة للأحداث عندما يستلم المراسل الميكرفون ويتحدث حيث يقدم للمشاهد مداخلات معمقة ومفيدة وشاملة وواضحة وممتعة.

لا نقلل من شأن المراسلين في مختلف الفضائيات العربية، إنما العاملون مع الجزيرة من العواصم المختلفة تجد لهم رونقاً خاصاً، ولأن القناة مُشاهدة بشكل واسع ومؤثر في العالم، فهذا يجعل مراسليها يتحملون مسؤوليات مضاعفة في تقديم المعلومات والتثقيف والتنوير المتميز.

وشيرين كانت ركناً عتيداً في الملف الفلسطيني، تحفظه عن ظهر قلب، وعلاقتها وثيقة بمختلف الطيف الفلسطيني، وهدوئها، وفرادة صوتها، ولغتها العربية الفصحى السليمة، مميزات تمنحها مزيداً من التألق.

فلسطين.. قضية الجزيرة

الشهيدة، والعاملون في مكتب الجزيرة بفلسطين، بقيادة المخضرم وليد العمري، يمثلون قناة تلفزيونية بذاتهم، وركنا أساسياً في الجزيرة، وأحد أعمدتها الصلبة، وهم، كمكتب نشط، ومعهم شبكة الجزيرة بمختلف قنواتها، يضعون فلسطين وشعبها وقضيتها المشروعة وحقوقها الأصيلة في الدولة المستقلة الفاعلة في مقدمة الاهتمام والأضواء والتركيز، وفلسطين هي قضية القضايا عند الجزيرة بالفعل، وليس هناك محطة عربية أخرى تتحمل المسؤولية الإعلامية تجاه فلسطين بشكل واضح وحاسم كما تفعل الجزيرة منذ نشأتها.

رحم الله شيرين وأثابها خيراً عن حسن عملها، ودورها الإعلامي، لصالح شعب مظلوم، وقضية عادلة.

المصدر : الجزيرة مباشر