كلما ازددنا تقدما.. ازددنا عزلة

 

 (1)

الصخب هو الكلمة التي تعبّر بدقة عما نعيشه في حياتنا اليومية، الأحداث والأخبار التي تتوالى علينا عبر الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت تعد ولا تحصى، تتركنا مشوّشي الذهن من فيض المعلومات والرسائل التي نتلقاها، ترتبك عقولنا وتعجز عن ترتيب هذه الملفات من حيث أهميتها بالنسبة لنا، نتحوّل لترس متناهي الصغر في آلة العولمة العملاقة الهادرة التي لا تهدأ ولا تنام، وفي خضم هذا الصخب المشوّش نفقد سلامنا النفسي وتواصلنا الإنساني، ولا تبقى أمامنا إلا العوالم الافتراضية لننخرط فيها علّنا نجد فيها عوضًا عن الواقع الذي نخاصمه، وتصوّر لنا أوهامنا أن الحياة البديلة أفضل من الحقيقية لأنها أسهل وأقل كلفة، العلاقات فيها لا تحتاج لتدقيق واختيار ولا تتبعها مسؤوليات.

نقرات على “الكي بورد” تفتح أمامك مغارة علي بابا.. احتمالات لا حصر لها تظنها كنوزًا حقيقية، لأن عقلك يفشل في تحديد الخط الفاصل بين الحقيقي والمزيّف، يذكّرني حالنا بسلسلة أفلام “الماتريكس” حين كانت الآلات العملاقة تستخدم البشر مصدرًا للطاقة لتشغيلها تعزلهم في حضانات حيث تسلبهم قواهم، أما عقولهم فهي تعيش في عوالم افتراضية من صنع تلك الآلات.

(2)

في أحد المسلسلات الرمضانية، ظهر في مشهد رجل أعمال ثريًّا جالسًا على “شيزلونج” يتناول عصير البرتقال المثلّج في شرفة مطلّة على حمام السباحة في “فيلته” الفخمة، يتحدّث في هاتفه المحمول مع زوجته، كانت الأخيرة تسأل عن ابنهما، وهل ذهب إلى الامتحان أم لا؟ رد بإيجاز: “لا أعرف”، ونادى على الخادمة ليعرف منها مكان ابنه؟

هذه اللقطة تلخّص حياتنا التي صارت رهينة العزلة والوحدة، الأسر تعيش تحت سقف واحد، ولا يعرف أفرادها أحوال بعضهم الآخر. اشتكت لي زميلة مرة أنها لم تعرف أن ابنها يمر باكتئاب إلا بعد أن قرأت “بوست” له بهذا المعنى على صفحته في “الفيسبوك”، وجد صغيرها متنفسًا له في العالم الافتراضي، ولم يخطر بباله أن يبوح لوالدته التي تعيش في الغرفة المجاورة له، بمكنون نفسه لعله يجد حلّا لبؤسه.

أتابع أحيانًا سلوك الناس على صفحات التواصل الاجتماعي ليس فضولًا، لكن لدراسة السلوكيات المستجدة، ويدهشني أحيانًا ما أجده: زوجان يعلّق كل منهما على بوست الآخر على صفحات “الفيسبوك”، كلماتهما توحي بحب رومانسي جارف، وبعد شهر يفاجئني إعلانهما الطلاق مع التأكيد أنهما ما زالا أصدقاء يحملان لبعضهما مشاعر الود والثقة، هذه الرسائل العلنية تجعل بعض المتابعين يندبون حظهم العاثر، لأنهم لا يحظون بهذا الحب كله أثناء الزواج، ولا بهذه العلاقة الودودة بعد الطلاق!! ويظل خيال هؤلاء معلّق في فخ الأوهام تمامًا مثلما يصوّر لنا خيالنا أن شعائر الحب هو ما يمارسه العشاق في أفلام السينما ومسلسلات “نتفليكس” حتى يصيبنا التململ من مشاعرنا الحقيقية المحدودة، لأنها لا تقارن بما نراه من نوعية المشاعر المثيرة على الشاشة.

(3)

أتذكر عبارة لجدتي -رحمها الله- كانت ترددها بأسى في أيامها الأخيرة: “البيوت ازدادت اتساعًا والنفوس ازدادت ضيقًا”، في طفولتي كان بيتنا يستقبل عشرات الضيوف في الأعياد، لم يكن أحد يتصل قبل الحضور، كان الباب مفتوحًا والنفوس رحبة مرحبة، الآن قبل أن يزور أخ أخاه عليه أن يخبره مقدمًا، وإلا سبّب ذلك حرجًا للطرفين.

في عصرنا كلما ازدادت الأسر ثراء حرصت على أن يكون لكل فرد فيها حجرة بحمّام خاص، تتحوّل الحجرات إلى كهوف للعزلة، فالاجتماع الأسرى على الغداء أو العشاء صار طقسًا نادرًا، دور الزوجة والأم يتقلّص أمام حداثة الحياة وإمكانية توفير بدائل عن المسؤوليات التي كانت الزوجة والأم تحتكرها حتى في الأسر الغنية والميسورة الحال، وكذلك دور الزوج والأب والأبناء.. إلخ، الكل يريد أن يتخفف من مسؤولياته، والطريق ممهد ومتاح تعرضه عليك الرأسمالية العالمية التي نجحت في إقناع الناس أن الطريق إلى السعادة الأبدية مفروش بالدولار.

(4)

إلى أين نحن ذاهبون؟

هل لمصير بطل “Her”؟

وهو فيلم خيال علمي أمريكي إنتاج 2013، تأليف وإخراج سبايك جونز، ومن بطولة “جواكين فينيكس” و”سكارليت جوهانسون”، ويدور حول “ثيودور” الذي يعيش في اكتئاب بسبب انفصاله عن زوجته وحبيبة عمره “كاثرين”، ويعمل في موقع لكتابة الرسائل نيابة عن الآخرين، ويقرر شراء نظام تشغيل (شبيه بالكمبيوتر الشخصي) يعمل بالذكاء الاصطناعي، ولديه إدراك حسي، ويتميّز بقدرته على التطوّر، ويختار أن يكون بصوت أنثوي اتخذت لنفسها اسم “سامنثا”، ويكون لهذه الشخصية الافتراضية دور مهم في حياته، فقد استطاعت بقدرتها الفائقة السرعة أن تنظّم له حياته العملية، كما شاركته مشاعره وأحاسيسه وأوقات فراغه، وفي الوقت نفسه لا تمثّل له عبئًا، وليس لها مطالب، وينتهى به الحال في الوقوع في غرامها، خاصة بعد فشله في علاقة واقعية مع شابة التقى بها وأعجبته، لكنه عجز عن فهم ردود أفعالها تجاهه.

فهل يدفعنا عجزنا عن فهم الأشخاص الحقيقيين ورغبتنا في التخفف والخصوصية المغالى فيها إلى أحضان الذكاء الاصطناعي يومًا، خاصة وقد بدأنا طريق العزلة، نختبئ الآن وراء الهواتف الذكية، ونتماهى مع العوالم الافتراضية.

حيثما ولّيت وجهك ستجد أشخاصًا يجلسون في حالة إلهاء تام عما يدور حولهم، منشغلين بالنظر في شاشات هواتفهم، كلًا منهم يعيش في عالمه الخاص لا يشعر بمن يجاوره في الواقع.

أنه أمر جد خطير، والدراسات النفسية تحذّر منه، لكن متى استمع الإنسان لصوت الحق والحكمة!!

كل عام يهبنا الله في رمضان فرصة ثانية لكسر العادات اليومية وتعويضها بعادات أخرى أفضل، فرصة لتصحيح مسار حياتنا إلى ما أراده الله لنا من تواصل ومعرفة، وأن نفشي السلام والعدل والإحسان في تعاملنا مع بعضنا.

كل عام والأمة الإسلامية بخير.. رمضان كريم.

المصدر : الجزيرة مباشر