الحرب الروسية الأوكرانية بين الحقائق وممارسة التضليل

دخلت الحرب شهرها الثاني، والعالم يقف على ساق واحدة، ولا خبر يعلو فوق الأخبار القادمة من أوكرانيا، هناك من يقول إنها معركة تصفية حسابات، وآخرون يقولون إنها معركة بين الظالم والمظلوم، فهل هي كذلك فعلًا أم أن هناك من يمارس التضليل؟ (المعركة قائمة..) ربما تبدو هذه هي الحقيقة الأوضح، نعم. هناك حرب تدور رحاها في هذه الأثناء، أطرافها الظاهرة الروس والأوكرانيون، والساحة المفترضة هي الأراضي الأوكرانية، لكن قد لا تبدو هذه هي القصة الكاملة، فالأطراف أكثر بكثير، وساحة المعركة توسّعت حتى وصلت العوالم الافتراضية. أوكرانيا ليست وحدها من تواجه الروس، فمع كييف تقف عواصم غربية عديدة تغذّيها بالسلاح والوعود بالصمود، وتفتح لها حدودها ومطاراتها ومخازن أسلحتها وحتى مصاريفها. قال الغرب لكييف: أنتم تقاتلون الشر نيابة عن العالم كله، فألف تحية لكم. واشنطن ولندن وباريس عواصم وجدت الفرصة لتصفية حسابات مع موسكو ولو على حساب جثة كييف، فالإنجليز لا يكنّون الود للروس منذ الأزل، والفرنسيون للتو كانوا مطرودين من معاقلهم التاريخية في أفريقيا، أما واشنطن فهي تريد التفرغ لبيجين ولا وقت لإعادة الانهماك في حرب باردة مع موسكو من جديد، بيجين طرف وإن تدثّرت بالحياد والعقلانية، إلا أنهم لم ينفكوا عن تأييد روسيا لحظة، وكذلك طهران التي تجلس منذ شهور على طاولة مفاوضات غربية تأمل فيها تخفيف العقوبات عنها مقابل تخلّيها عن حلمها النووي.

إذاً تصوير الحرب على أنها بين موسكو وكييف قد لا يبدو وصفًا دقيقًا، والأطراف المنغمسون أكثر من ذلك بكثير.

“ساحات القتال أوسع بكثير”

أما عن ساحات القتال فالساحة ليست فقط أراضي الأوكرانيين، ففي أروقة الأمم المتحدة يخوض الغرب حربًا سياسية ودبلوماسية طاحنة ضد الروس، وفي أسواق العالم تسعى واشنطن لدك موارد موسكو، وحتى في الساحات الافتراضية والإنترنت وصولًا لمواقع التواصل الاجتماعي يسعى الأمريكيون بكل قوتهم لإقصاء الروس وحرمانهم ومنعهم من استخدام خدمات لا يمكن تعويضها، فمثلًا “مستر كارت” و”فيزا” توقفتا عن الخدمة في أراضي الدب العائد، ونظام “سوفيت” خال من مصارف روسية عدة، و”جوجل” و”فيس بوك” ومعهم “تويتر” أقصوا المواقع الروسية الرسمية، “نيتفيلكس” والعديد من الخدمات الإلكترونية باتت ممنوعة عن روسيا، كذلك جاءت أدوات القتال أكثر تنوعًا فهي أكبر من صاروخ ودبابة وطائرة وأكثر من رصاص مسكوب. واشنطن ومعها أخواتها لم يتركوا عقوبة تدمي اقتصاد الروس إلا وفعلوها، حتى وصل أنينُ موسكو بالقول إن هذه العقوبات الغربية بمثابة إعلان حرب على حرب.. حتى الكنائس دخلت على خط الحرب، الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تعلن دعمها لفلاديمير بوتين وكأنه فلاديمير الأول، وعلى الطرف الآخر كان رد فعل الميتروبوليت أونوفري راعي الكنيسة الأوكرانية الذي شبّه الحرب على بلاده بـ”خطيئة قابيل” الذي قتل شقيقه هابيل. حقًا هذه حرب معقّدة، حرب بوتين على أوكرانيا كأنها مجموعة من الحروب المتلازمة كل حرب منها تشعل حربًا أخرى، فما أصعب حروب الأخوة الأعداء وهم يتقاسمون المقدس!.

“ممارسة التضليل”

محاولة أمريكا ترويج أن العالم كله يقف مع الغرب في تصديه لروسيا، نوع من ممارسة التضليل، فلعل أبرز ما كشفت عنه الحرب هي رزمة الدول الجديدة غير المنحازة لطرف على طرف، دول مفاجئة وصادمة رفرفت أعلامها في سماء الحياد، وهم لاعبون تقليديون قدماء في المعسكر الغربي، على رأسهم إسرائيل التي لعبت دور الوسيط على الرغم من كونها ترعرعت في أحضان الغرب وأمريكا، وغالبية دول العالم تقف على الحياد، بل ومنها دول لم تنخرط في حزمة العقوبات المفروضة على روسيا.

بل إن رئيس حكومة باكستان قال بأن بلاده ليست عبدة للغرب، ليُمليَ عليها مع من تقف ومن تدعم، وإلى أبعد من هؤلاء دول في القارة اللاتينية اختارت الصمت هي الأخرى، ومعهم كذلك دول في شرق آسيا، ودول أخرى في العمق الأمريكي، وهذا يعني أن محاولة الغرب ترويج بأن العالم كله يقف معهم في تصديهم للروس هو نوع من ممارسة التضليل.. أيضًا هذه الحرب ربما الجميع ضحايا والجميع جناة، أوكرانيا التي يعاني شعبها ويلات الحرب والنزوح زَجَّ بها جيرانها الأوروبيون وحلفاؤها الأمريكيون للوقوف في وجه الروس، وعود صدّقها الأوكرانيون ووافقوا على التصعيد ضد موسكو. وهنا تكاد تكون أوكرانيا هي الجاني والمجني عليها في الوقت ذاته، وليست ضحية فقط لأحلام الروس، بل ضحية طموح ساستها ووعود الغربيين.

كذلك الروس أنفسهم وتحديدًا شعب روسيا، هؤلاء من تحملوا عبء العقوبات الغربية، وهؤلاء من يدفعون ثمن الطموح البوتيني الكبير، وبحسب كلام موسكو فهي أُجبرت على هذه الحرب ولم تدخلها فقط لاستعراض العضلات، بل كييف هي من آثرت جلب الناتو إلى حدودها وآثرت قضَّ مضاجعها بوجود الآلة العسكرية الغربية بالقرب من عاصمتها، كما أن رائحة مشروع نووي أوكراني فاحت في سماء روسيا أجبرتها على التحرّك، وتلك مبررات كانت واشنطن تشنّ لمثلها آلاف الحروب لتدمير العراق حين أعلن عن امتلاكه أسلحة دمار شامل، وهنا قد تبدو موسكو جلادًا وضحية في الوقت ذاته، وأما عن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة فقد يكون أكثر الرابحين، فمن ناحية أظهر نفسه مدافعًا عن حقوق الإنسان، ومن ناحية أخرى وجد فرصة لتحجيم العدو روسيا وصدّها بكل ما أوتي من قوة بعقوبات لا تُبقي ولا تذر، كما يضمن بعد الحرب تعطيل مشروع عودة الدب الروسي ليتفرغ لتنين الصين، لذا وإن بدا أن المعتدي قد تكون روسيا، والمُعتدَى عليه هي كييف، والمدافعون عن الخير والسلام هم الغرب فتلك أيضًا معلومة تحتاج إلى إعادة التمحيص والتدقيق، وتحتاج ذاكرةً ورؤيةً أوسع وأوسع.

المصدر : الجزيرة مباشر