رئيس البحرية التركية السابق يكتب لـ”الجزيرة مباشر”: قصة المفاوضات الروسية الأوكرانية برعاية تركيا.. ماذا حققت؟!

الهروب من الحرب

لقد ألقت الحرب الروسية الأوكرانية منذ بدايتها بظلالها على النطاق العالمي، فبينما تستمر آثار تلك الحرب في العقوبات المفروضة على روسيا، وتدمير البنى التحتية والفوقية في أوكرانيا، فإن هناك عملية تفاوض لا تزال مستمرة أثناء الحرب، ويمكن وصف تلك العملية بأنها منقطعة النظير في مثل تلك الظروف.

منذ الرابع والعشرين من شهر فبراير/شباط الماضي حتى يومنا هذا، تم تنظيم اثنتين من مجموع سبع جلسات تفاوض تحت إشراف تركيا، وما دام الوضع كذلك، فإنه من المشروع السؤال عن حصيلة المحادثات التي جرت في إسطنبول في التاسع والعشرين من مارس/آذار بين وفود الطرفين الروسي والأوكراني، ولا سيما على صعيد دور تركيا فيها وردود الأفعال العالمية.

بعد ردود الأفعال الإيجابية بشأن موقف تركيا المحايد والموضوعي منذ البداية فيما يخص الحرب بين الطرفين، فقد رأت تركيا أن تتدخل بصفتها مُيَسِّرة وساعية لتخفيف التوترات، بدلا من كونها وسيطا بين طرفي الحرب، وقد جاء نتيجة لذلك الموقف التركي عقْد المفاوضات في إسطنبول بعد اتصال الرئيس التركي أردوغان بنظيره الرئيس الروسي بوتين ودعوته المباشرة لوقف إطلاق النار وبدء مفاوضات سلام مع أوكرانيا، تخفيفا من حدة الموقف وسعيا لفتح طريق المفاوضات.

ضمانات أمنية

وقد انجلى بعد هذه المحادثات أنها هي التي حققت أكثر النتائج الإيجابية الملموسة بصدد المفاوضات التي جرت بين الطرفين منذ بداية الحرب. ويمكن رؤية تلك النتائج في اتخاذ الوفد الممثل للطرف الروسي في هذه المباحثات موقفا بنَّاء، وتصريحه بأن نظرة بوتين إلى هذا اللقاء على مستوى القادة ليست نظرة سلبية. وكذلك التوصل أثناء المباحثات إلى الاتفاق على عقد الاجتماع المقبل لكن لم يتم بعد تحديد الموعد والمكان لذلك، وقد (قال وفد التفاوض الأوكراني في المؤتمر الصحفي أنه سيكون في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع)، علاوة على أن الجانب الروسي سيوقف هجماته على كييف وتشيرنيهيف في أسرع وقت. وقد صرح الجانب الأوكراني بأنه يبحث عما سيقدمه المشرفون على المباحثات من ضمانات أمنية في مناطقه المتبقية، باستثناء إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم. وفي خطاب الرئيس الأوكراني زيلينسكي اليومي بالفيديو للشعب، ذكر بعض الإشارات “الإيجابية” مما خرجت به الجولة الأخيرة من محادثات السلام.

وهكذا يُعرب الطرفان عن إحراز تقدم ملحوظ في الموضوعات المطروحة للتفاوض، ولعل من النتائج الإيجابية والمهمة لتلك المباحثات، أنه سيكون هناك اجتماع على مستوى القادة، عندما تتجلى الأمور وتصل إلى نقطة يسهل استيعابها من الطرفين، وذلك دون تجاوز للخطوط الحمراء التي يصر عليها الجانب الروسي منذ زمن طويل.

اقتراح أوكرانيا

وقد قدمت أوكرانيا اقتراحا يأتي في أولوياته العمل على إيجاد نظام أمني يضمنه الشركاء الدوليون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا ودول الاتحاد الأوربي وكندا وإسرائيل، وذلك حال تخلّي أوكرانيا عن طلبها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، هذا وقد ربط المفاوضون الأوكرانيون اقتراحهم ذلك بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو، التي تنص على الدفاع المشترك عن أعضاء الحلف. وعلى الرغم من أن أوكرانيا ستحتفظ بالحق في طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، فإنها ستوافق على البقاء على الحياد ولن تحتفظ بطاقة نووية.

في ما يتعلق بوضع شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في عام 2014، قدّمت أوكرانيا جدولا زمنيا مدته 15 عاما للمفاوضات مع روسيا حولها.

على الرغم من أن الاجتماع لم يسفر عن اتفاق لوقف إطلاق النار، فإن هناك مؤشرات تفيد بأن المفاوضين الروس والأوكرانيين قد أحرزوا بعض التقدم في محادثات إسطنبول للسلام، وقد ظهرت نتائج الاجتماع دوليًّا بعد انتهائه مباشرة، حيث انخفضت أسعار الطاقة والحبوب على مستوى العالم.

تراجعت قيم العقود الآجلة للنفط الخام بنسبة 1.6% لتستقر عند 104 دولارات للبرميل، وهي بذلك تتجاوز الانخفاض السابق الذي دفع السعر إلى التراجع لفترة وجيزة إلى ما دون 100 دولار، كذلك كانت العقود الآجلة القياسية للقمح والذرة من بين السلع التي تراجعت، فضلا عن تراجع أسعار معادن ثمينة من بينها الألومنيوم والذهب.

وفي السياق ذاته، قال رئيس برنامج الأغذية العالمي ديفيد بيزلي، في حديثه أمام مجلس الأمن الدولي، إن بلدان الشرق الأوسط التي تعتمد على أوكرانيا في جزء كبير من وارداتها من القمح -مثل مصر واليمن ولبنان- تواجه كوارث متلاحقة تحت تأثير الغزو الروسي.

وقد جاء في التصريحات التي أدلى بها مسؤولون قياديون في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية ودول الاتحاد الأوربي وأوكرانيا، أنهم يريدون رؤية تنفيذ رفع الحصار عن كييف وتشرنيهيف على أرض الواقع، كجزء من مطلب امتثال الروس لالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في أوكرانيا، بدلا من دوام الحديث عن ضرورة وقف الحصار دون تفعيل. وجاء في السياق ذاته في 29 مارس تأكيد الجنرال تود د. وولترز من البنتاغون أنه “من الممكن التحقق من تقارير تفيد بانسحاب القوات الروسية من المنطقة المحيطة بالعاصمة الأوكرانية كييف”، معززا ذلك بأن الجانب الروسي لا يزال ملتزما بالاتفاق في الواقع. وبالفعل يؤكد رئيس فريق التفاوض الروسي ميدينسكي أن المفاوضات كانت “موجزة”، ويعتقد أنه يرى نقطة انطلاقة يمكن من خلالها تلبية مطالب الكرملين.

لقد اتخذت تركيا في هذه الحرب -منذ يومها الأول- جانب الانحياز إلى توفير مناخ ملائم لـ”وقف إطلاق النار والسلام”. فإن وجود تركيا ذات العلاقات الصادقة مع الطرفين، واستهدافها تسهيل الحوار والحل السياسي، مع تشككها من النهج الدولي بشكل عام في تعامله مع الوضع، لا سيما وقد فُرضت عقوبات من كل دول العالم على روسيا على إثر ما ارتكبته. فإن تركيا لا تزال تتبع سياسة تهدف معها إلى إيجاد حل وإنهاء الحرب.

وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في بيان يدعم مهمة تركيا “نحن ممتنون لتركيا على جهود الوساطة، ودورها واستعدادها للمساعدة في إجراء المفاوضات الروسية الأوكرانية وحل الوضع”. بالإضافة إلى ذلك، صرحت بأن المسؤولين الأتراك “على وشك الاتفاق” بشأن القضايا الرئيسية، بما في ذلك ضمانات بأن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف شمال الأطلسي ونزع السلاح ووضع الحماية للغة الروسية.

أكبر أسباب النزاع

ويأتي على رأس مواضع النزاع، مصير منطقتي “شبه جزيرة القرم ودونباس” اللذين يُعدّان أكبر أسباب النزاع بين البلدين. يخرج الاقتراح التركي للحل، على غرار سيطرة المملكة المتحدة على هونغ كونغ، فقد قامت أوكرانيا بتأجير قاعدة سيفاستوبول البحرية في البحر الأسود لروسيا قبل أحداث عام 2014، والاقتراح هو إبقاء سيطرة موسكو عليها تحت مسمى عقد إيجار طويل الأجل. وتجري مناقشة ذلك العرض التركي ودراسته في الكرملين.

وفي التحليل النهائي للوضع الحالي، فإن تركيا قد طبّقت اتفاقية مونترو بسلاسة ودن إحداث اضطرابات من خلال عدم إخلالها بالنص، وعلى الرغم من عملية العقوبات الجذرية للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، فإن الروس لديهم نهج مستقل وصحيح ذاتيا لسياساتهم الوطنية التي تهدف إلى الحفاظ على المصالح والتوازن الإقليمي، “بطريقة أو بأخرى، لم تشغل الحملة المناهضة لروسيا الحكومة التركية، ولا الشعب التركي ككل، فلا الحكومة التركية ولا الشعب التركي يشتركان في الهستيريا المعادية لروسيا في الغرب”.

ومن الملاحظ أن تركيا التي عُقد فيها اجتماع وزراء الخارجية الذي يُعد الاجتماع الأعلى مستوى بين الطرفين منذ بداية الأزمة، هي البلد الذي أصبح يتم فيه تسهيل اتخاذ الخطوات الملموسة واقعيا بعد ذلك، فلها دور كبير وفعّال في سبل وقف إطلاق النار، وسيتم الحفاظ على هذا الدور على أعلى مستوى حتى النهاية. وفي الوقت الذي تستمر مطالبة روسيا للدول الضامنة للمباحثات، بعدم التخلي عن شبه جزيرة القرم ودونباس، وجعل أوكرانيا دولة محايدة منزوعة الأسلحة النووية، يطالب الجانب الأوكراني بوضع شبه جزيرة القرم ودونباس وسلامة أراضيهما والدول الضامنة في المسائل المقترحة للنقاش للمشاركة في المفاوضات المقبلة.

وفي التصريحات التي أدلى بها ألكسندر شالي من فريق التفاوض الأوكراني في إشارته إلى مطالب كييف، قال “إذا تم توفير ضمانات مماثلة للضمانات الأمنية الواردة في المادة الخامسة من اتفاقية الناتو، فلن يُسمح بالقواعد العسكرية في أوكرانيا، في مثل هذا الوضع، لن نكون قادرين على المشاركة في أي تحالفات سياسية وعسكرية، ولن نتمكن نم إجراء تدريباتنا دون موافقة وإذن من الضامنين، لذا من الضروري ألا تتضمن الاتفاقية أي بند يمنع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوربي، وكذلك يجب التأكيد على تقديم مثل هذه الضمانات من الضامنين الأمنيين”. وهكذا يتضح من خلال التصريحات التي تم الإدلاء بها بعد محادثات إسطنبول للسلام، أن الجانب الروسي مستعد أيضًا لاتخاذ خطوات إيجابية لتجاوز المشاكل المتعلقة بهذه المسألة.

المصدر : الجزيرة مباشر