ماذا يعني إفلاس الدول؟!

لم تكن لبنان الدولة الأولى التي تعلن افلاسها ولن تكون الأخيرة

لم يكن إعلان الدولة اللبنانية إفلاسها مفاجئًا لأحد من المراقبين، حيث تمر لبنان بأزمة اقتصادية حادة منذ نحو عامين، وقد جاء ذلك على أثر خلافات سياسية داخلية حادة، ترتبت عليها انخفاضات حادة ومتوالية لسعر صرف العملة المحلية وارتفاع متوال لمعدلات التضخم، وانهيار للقدرة الشرائية للبنانيين، فضلا عن شحّ في الوقود والأدوية.

الأمر الذي أجبر البنك المركزي اللبناني على تجميد ودائع المواطنين بالعملات الأجنبية، ومسارعته إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي والداعمين الخليجيين الذين تمنعوا كثيرا عن استمرار مساعدتهم في ظل استمرار سيطرة حزب الله على مفاصل الدولة.

كما بدت مفاوضات الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي متعثرة إلى حد كبير، حيث بدأت تلك المفاوضات في منتصف عام 2020، لكنها جُمّدت في أغسطس/ آب من نفس العام، قبل أن تنطلق من جديد مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد تشكيل حكومة جديدة. وطلبت الحكومة اللبنانية من الصندوق قرضا بقيمة تتراوح بين 3 و4 مليارات دولار في مرحلة أولى، يمكن أن يتوسع لاحقا طبقا لتصريحات وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام، وهو مبلغ قليل مقارنة بالفجوة التمويلية المقدرة حكوميا بحوالي 69 مليار دولار.

مفهوم إفلاس الدولة

الإفلاس السيادي (Sovereign default) هو إعلان حكومة الدولة فشلها أو رفضها لسداد ديونها جزئيا أو كليا، أو الوقف الفعلي للدفعات المستحقة، أو إعلان الدولة فشلها في الحصول على أموال من جهات خارجية لدفع ثمن ما تستورده من البضائع والسلع، وغالبا ما تُمهَل الدولة لمدة 30 يوما من تاريخ استحقاق دفعة القسط الواجب السداد ليُعلَن بعد ذلك أنها دولة متخلفة عن السداد.

والقروض الخارجية تكون من حكومة الدولة نفسها أو من أحد الكيانات السيادية للدولة، وذلك من خلال إصدار سندات بالعملات الكبرى في العالم، أو من خلال قروض من المؤسسات الدولية أو الإقليمية، كصندوق النقد الدولي أو البنك الأوروبي لإعادة الإعمار أو البنك الإفريقي للتنمية، وغيرها من المؤسسات الدولية والإقليمية العاملة في هذا المجال.

كما يمكن للدول أو الكيانات السيادية الاقتراض من خلال الاتفاق مع دولة أخرى فيما يعرف بالقروض الثنائية، وتتعهد الدول أو الكيانات السيادية للمقرضين بدفع المبلغ الأصلي والفائدة بحلول مواعيد الاستحقاق، وتضمن الحكومة سداد مدفوعات القروض باستخدام عائدات الضرائب التي جمعتها من مواطنيها.

ومن الجدير بالذكر أنه يجب التفرقة بين طلب دولة متعثرة عن السداد من الدائنين إعادة هيكلة مديونياتها وهو ما يطلق عليه مصطلح “التعثر”، وبين رفض الدولة سداد الديون المستحقة عليها، كليًّا أو جزئيًّا، وهو ما يطلق عليه “الإفلاس السيادي”. ففي الحالة الأولى (التعثر) تطلب حكومة الدولة المتعثرة مد آجال استحقاق السداد، أو تطلب خفض قيمة الدين أو شطب جزء منه بالاتفاق مع الدولة الدائنة، كما حدث عام 2001 عندما طلبت الأرجنتين سداد ثلث ديونها البالغة 81 مليار دولار، أما في الحالة الثانية (الإفلاس) فتعلن الدولة نيتها عدم السداد كليًّا أو جزئيًّا.

عمومًا يحدث الإفلاس السيادي بعد سنوات من الإنفاق المفرط على مشروعات غير ذات عوائد اقتصادية تفشل عوائدها في سداد الأقساط والفوائد، ومن اعتماد ميزانيات الطوارئ لتسيير الأعمال في غياب التوجهات الاستراتيجية والمرحلية للاقتصاد القومي، مع استمرار تسوية عجز الموازنة والميزان الجاري باستخدام ديون جديدة، والاعتماد على القروض الجديدة لخدمة الديون القديمة وفوائدها، ويشير ذلك إلى فساد الهيكل الإداري للدولة، وتخلف الدولة الإنتاجي فضلًا عن غياب الإفصاح والشفافية.

تداعيات الإفلاس السيادي على الدول

تختلف تداعيات إعلان الدولة التوقف عن السداد طبقًا لنوع القروض التي اقترضتها، ونظريًّا يرى البعض أن إعلان الدولة إفلاسَها يمثل فرصة جيدة للإفلات من قبضة الدائنين، وأنها خطوة جريئة يمكن لبعض الدول اتباعها لإنقاذ اقتصادها، ولكن هؤلاء يتجاهلون التداعيات التي تحدث مباشرة عقب إعلان الدولة إفلاسها.

من المنطقي أنه سيعقب إعلان الدولة إفلاسها حدوث هزة اقتصادية عنيفة على الصعيد المحلي، حيث يندفع المستثمرون وأصحاب المدّخرات -الذين يتوقعون هبوطا قويا في قيمة العملة المحلية- إلى سحب أموالهم من الحسابات المصرفية ونقلها إلى خارج البلاد، وهو الأمر الذي يزيد الضغط على الجهاز المصرفي ويؤدي إلى المزيد من تآكل القوة الشرائية للمواطنين.

كما ستلجأ حكومة الدولة المفلسة من أجل وقف هبوط قيمة العملة ومسحوبات الأموال إلى إغلاق البنوك كليًّا، أو فرض قيود صارمة على حركة رؤوس الأموال، وهي الإجراءات التي ستعوق الأنشطة الصناعية وتقوض حركة التجارة ولاسيما الاستيراد من الخارج، مما قد يتسبب في نقص بعض السلع الأساسية.

هذا بالإضافة إلى أن الدولة المفلسة تصبح أقل جاذبية للمستثمرين في السندات، مما سيصعب ويزيد من تكلفة الحصول على أموال جديدة، خاصة عندما تخفض وكالات التصنيف الائتماني الدولية تصنيف الدولة المفلسة الائتماني أو تصدر تحذيرات بشأن الاستثمار فيها. وبشكل عام تكون تداعيات الإفلاس أكثر إيلامًا إذا كانت عشوائية وفجائية وغير منظمة.

فعلى الصعيد الخارجي تفرض أسواق رأس المال معدلات اقتراض عقابية أو ترفض إقراض الدولة مجددًا عقابًا لها على التخلف عن السدا. وتجدر الإشارة إلى أن تسوية الديون أو إعادة هيكلتها بين الحكومات المتعثرة والدائنين لا تحكمها قوانين دولية تنظم هذا الأمر، بل تتم بالتفاوض الذي يكون مكلفًا ومرهقًا لجميع الأطراف في أغلب الأحيان.

مصادرة أصول الدولة المفلسة

لم تكن الدولة اللبنانية أول دولة تعلن إفلاسها ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها في القائمة الإكوادور، التي أعلنت إفلاسها 10 مرات، وبعدها أتت البرازيل والمكسيك، وأوروغواي، وتشيلي، وكوستاريكا، وإسبانيا، وروسيا، وألمانيا.

ومع بداية القرن الحالي أعلنت الأرجنتين إفلاسها، وذلك بعد اقتراضها عدة مرات من صندوق النقد الدولي وتعثرها في سداد مديونيات مستحقة لمستثمري السندات الحكومية، الذين استطاع أحدهم حجز سفينة أرجنتينية راسية في أحد موانئ غانا، ولم يستمر الحجز إلا بضعة أسابيع.

وتشتهر القروض الصينية بالرهون السيادية التي تمكنت الصين من خلالها من الاستيلاء على مطار عنتيبي الدولي بعد فشل الحكومة الأوغندية في تسديد قرض لها عام 2015، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان قصة ميناء هامبانتونتا السريلانكي الذي استحوذت عليه الصين مدة 99 عاما بعد عجز سريلانكا عن سداد قرض صيني، بالإضافة إلى قصة ميناء غوادار الباكستاني الذي استحوذت عليه شركة صينية مدة 40 عاما، وكلها حالات تؤكد التداعيات المؤلمة لإفلاس الدولة.

المصدر : الجزيرة مباشر