باسم عودة.. وقصة حل أزمة الخبز المزمنة

باسم عودة

ما إن بدأت روسيا حربها على أوكرانيا، يوم الخميس 24 فبراير/شباط الماضي، حتى توقفت أوكرانيا عن تصدير القمح تمامًا. ثم فرضت الولايات المتحدة وأوربا عقوبات اقتصادية على روسيا، وعزلتها عن نظام سويفت البنكي، ومنعت الدول من التعاملات المالية مع البنك المركزي الروسي، فتوقفت عمليات شحن القمح تمامًا من موانئ روسيا وأوكرانيا الثمانية على البحر الأسود.

وبذلك خسرت مصر واردات القمح من روسيا، أكبر مصدر في العالم، ومن أوكرانيا، خامس أكبر مصدر في العالم. وهي خسارة كبيرة وخطيرة لأكبر مستورد للقمح في العالم. العام الماضي، اشترت نحو 8.9 ملايين طن من روسيا بنسبة 68%، واشترت 3 ملايين طن من أوكرانيا، بنسبة 23% من وارداتها.

ومع بداية الحرب، ارتفعت أسعار القمح بنسبة 7% في بورصة شيكاغو التجارية. وفي بداية الأسبوع الثاني من الحرب، زادت أسعار القمح مرة أخرى بنسبة 50% لتصل إلى 490 دولارًا للطن دون تكاليف الشحن. وفي أوربا ارتفعت العقود الآجلة للقمح بنسبة 10%، ثم زادت مرة أخرى بنسبة 30% لتصل إلى 410 يوروهات للقمح الفرنسي دون احتساب تكاليف الشحن البحري.

منظومة الخبز التمويني المدعوم في مصر تغطي 71 مليون مواطن فقط. وتبلغ حصة المواطن 5 أرغفة في اليوم بسعر 5 قروش للرغيف وبوزن 90 جرامًا. منذ سنة 2014، تم حذف 10 ملايين مواطن من المنظومة، وتخفيض وزن الرغيف من 130 جرامًا إلى 110 جرامات، وأخيرًا انخفض وزن الرغيف إلى 90 جرامًا.

ولذلك يوجد أكثر من 32 مليون مواطن ليست لهم حصة في الخبز التمويني المدعوم، ويشترون الخبز الحر غير التمويني، الذي يُسمّى العيش السياحي، لأن الدولة ليست لها رقابة على وزنه ولا سعره. ومع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، انخفض وزن رغيف العيش السياحي وزاد سعره بنسبة 50% ليصل إلى جنيه و50 قرشًا للرغيف الواحد، وهي زيادة كبيرة تثقل كاهل الأسر الفقيرة والغنية في مصر.

لذا، أصدرت الحكومة قرارًا غير مسبوق يحدد وزن وسعر بيع رغيف الخبز الحر، الذي يسمّيه المصريون العيش السياحي، ونص القرار على تحديد سعر بيع الخبز الحر بـ50 قرشًا للرغيف زنة 45 غرامًا، و75 قرشًا للرغيف زنة 65 غرامًا، وجنيه واحد للرغيف زنة 90 غرامًا، و11.5 جنيهًا للكيلوغرام من الخبز المعبأ.

بالتزامن مع أزمة الخبز الحالية، ومع كل أزمة في الخبز أو السلع التموينية وأنبوبة البوتاجاز، يتذكر المصريون وزير التموين الدكتور باسم عودة الذي نجح في حل أزمة الخبز المزمنة والممتدة لعقود في فترة وجيزة. وهنا أذكّر بإنجازات الوزير الشاب ونجاحه في فترة وجيزة لم تتجاوز ستة أشهر عام 2013، كيف نجح عودة -رغم معوقات الدولة العميقة ومافيا تجارة القمح والدقيق التمويني- في حل مشكلة الخبز المزمنة التي تؤرق المواطن والحكومة في ذلك التوقيت؟

تقلّد باسم عودة وزارة التموين مكلفًا بأربعة ملفات حيوية، هي الخبز والسلع التموينية والبنزين والمنتجات البترولية وتنشيط التجارة الداخلية. وفجّر عودة المفاجأة ونجح في إدارة ملفات وزارة التموين وعلى رأسها رغيف الخبز وبشهادة كل المصريين، المؤيدين والمعارضين على السواء، ورغم تعرّضه للاغتيال وحرق مكتبه بالوزارة.

منظومة الخبز

بدأ عودة بتطبيق منظومة جديدة للخبز التمويني المدعوم، من خلالها يحصل المواطن على رغيف الخبز بجودة عالية، وبكرامة تليق به بعد ثورة يناير. وجعل عودة الخبز حقًّا لكل المواطنين من غير حد أقصى لعدد الأرغفة، ودون تخفيض وزن الرغيف. وبدأ بإيقاف تسريب القمح من المطاحن والدقيق من المخابز إلى السوق السوداء، فوفّر 3.4 ملايين طن من الدقيق وبتكلفة 11 مليار جنيه، وألزم المخابز بتصنيع حصة الدقيق المصروفة إليها كاملة، فقضى على ظاهرة طوابير الخبز القاتلة.

ومنع باسم عودة إضافة دقيق الذرة إلى رغيف الخبز، وهو ما حسّن جودة الخبز على نحو جعل أساتذة الجامعات يعودون لشراء الخبز التمويني بجودة تليق بكرامة المواطن المصري، وحافظ بهذا القرار على صحة المواطنين من الإصابة بالسموم الفطرية الموجودة فى دقيق الذرة لعشرات السنين والتي تسبب سرطان الكبد.

شبكة الصوامع

في حوار مع جريدة الأهرام قال الوزير باسم عودة “الشون الترابية واقع أليم وقديم ما زلنا نعاني منه، ونحن نحاول أن نضع خريطة استراتيجية لتخزين القمح كمرحلة أولى نُتبعها بباقي الحبوب، فتكون هناك صوامع للأرز، وأخرى للذرة الصفراء، على أن يتم تمويل هذه الصوامع من خلال الصكوك. ونأمل من الله تحسين الوضع الحالي للشون الترابية، فبقاؤها واستمرارها يمثل نقطة ضعف لا يمكن السكوت عليها”.

فعقد الوزير عودة اتفاقًا مع شركة (المقاولون العرب) لتطوير جميع الشون الترابية المكشوفة، حتى تكون خرسانية ومظللة لتوفير ما يقرب من 20% من إجمالي القمع المخزّن بها، كان يُهدَر بسبب الخلط بالتراب وعبث الطيور. واعتمد خطة وميزانية من الحكومة لإنشاء عدد من الصوامع الضخمة في أكثر المحافظات إنتاجًا لمحصول القمح، وافتتح بالفعل عددًا من الصوامع التي أنشئت.

استهدف عودة بناء صناعة لإنشاء الصوامع، وبناء شبكة من الصوامع لتنتشر في محافظات إنتاج القمح بالاشتراك مع خبراء من كلية الهندسة بجامعة القاهرة وبأقل تكلفة، واتخذ خطوات في هذا المجال توقفت بعد 2013. وقال في حوار مع جريدة الأهرام، إن “مبارك أسس الشركة المصرية القابضة للصوامع، التي قامت خلال عشر سنوات ببناء 17 صومعة، وقامت بتخزين مليون ونصف مليون طن من القمح فقط. هناك تفكير في إنشاء عدد كبير من الصوامع الضخمة، فقد تم طرح كراسة شروط لـ15 صومعة وهناك كراسة أخرى بعشر صوامع، وثالثة لمستثمرين عرب ومصريين لبناء 75 صومعة”.

كانت تكلفة إنشاء الصومعة التي تصل سعتها إلى 60 ألف طن لا تزيد على 80 مليون جنيه، ارتفعت بعد 2013 مباشرة إلى 180 مليون جنيه، ثم تضاعفت التكلفة بعد ذلك. وكشف حادث انهيار صومعة بمحافظة المنيا عام 2018 عن أن تكلفة إنشاء الصومعة بلغت 20 مليون جنيه، وهو مبلغ كبير لإنشاء صومعة صغيرة سعتها التخزينية 5 آلاف طن فقط، لأن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تشرف على إنشاء الصوامع من دون خبرة سابقة، وبالأمر المباشر، ومن دون إشراف من مكتب استشاري مستقل.

استلام القمح المحلي

استهدف الدكتور عودة الاكتفاء الذاتي من القمح خلال أربع سنوات. ولتحقيق الهدف، قام -من خلال مسؤوليته عن وزارة التموين التي تشتري القمح من الفلاحين- بتحفيز المزارعين لبيع القمح للوزارة دون إلزام أو إكراه، برفع سعر التوريد إلى 400 جنيه للأردب للمرة الأولى في تاريخ القمح المصري، لتتحقق العدالة، وليتوجه الدعم إلى الفلاح المصري نفسه وليس للمزارع الأمريكي أو الروسي أو الأوكراني كما كان يحدث ولا يزال.

ومنع عودة استيراد القمح الأجنبي من أول فبراير/شباط 2013، أي قبل موسم حصاد القمح المحلي بشهرين كاملين حتى نهاية موسم الحصاد، مما حقق هدفين في آن واحد، الأول: أعطى الفرصة لتفريغ الصوامع المعدنية الحديثة، التي خصصها نظام مبارك لتخزين القمح الأجنبي فقط رغم سوء جودته، واستخدمها في تخزين القمح المحلي لتكون أول وآخر مرة يُخزن القمح المصري في هذه الصوامع الحديثة بعد أن كان يُخزن في الشون الترابية ويُترك عرضة للحشرات والمطر والشمس غارقًا في مياه الصرف الصحي.

أما الثاني: فمنع خلط القمح المحلي عالي الجودة بالمستورد الرخيص الفاسد، والتربح من فروق الأسعار، وهي عملية قذرة معروفة من العهد البائد بـ”تدوير القمح” على النحو الذي تكرر بعد مغادرته الوزارة في منتصف 2013. حيث تشتري وزارة التموين نحو مليونَي طن من القمح الأجنبي خلال موسم الحصاد على أنه قمح محلي، مما كبّد الدولة مليارَي جنيه فروق أسعار بين القمح المحلي والأجنبي في كل سنة.

عمد باسم عودة إلى إنشاء لجنة استلام القمح قبل الموسم بأكثر من شهر. أشرك فيها ممثلين عن نقابة الفلاحين، واللجان الشعبية في القرى، بالإضافة إلى ممثلي الجهات المسوّقة للقمح، هيئة السلع التموينية، بنك التنمية الزراعي، شركات الصوامع والتخزين والمطاحن. ونجحت الوزارة للمرة الأولى في شراء 3.7 ملايين طن من المزارعين المصريين من دون زحام أمام الشون أو تأخير في استلام ثمن القمح، مع تسليمهم ثمن القمح في أقل من 24 ساعة بدعم من الرئيس محمد مرسي ووزارة المالية.

وأعلن عودة عن مسابقة بين المحافظات وصرف جائزة قدرها مليون جنيه لأكثر محافظة تورِّد قمحًا محليًّا للوزارة، مما جعل كل محافظ حريصًا بشدة على تسهيل الخدمات للفلاحين حتى يتمكنوا من توريد أكبر قدر من القمح إلى الوزارة. واعتمد حملة إعلانية بالتلفزيون المصري من خلال فيديوهات تمثيلية قصيرة، لتشجيع الفلاحين على توريد إنتاجهم من القمح إلى الوزارة بشكل مباشر وحفظ أموالهم من جشع التجار.

وأنتجت الوزارة أغنية جديدة لموسم حصاد القمح، ورتب حضور رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي احتفال موسم حصاد القمح في حقوله بالإسكندرية، ليؤكد نجاح أول خطوة للاكتفاء الذاتي من القمح بزيادة المساحة المزروعة بنسبة 10%، وزيادة الإنتاج بنسبة 30%. ولو قُدِّر للتجربة أن تكتمل، لتحقق الحلم المصري قبل أربع سنوات، ونجت الدولة من أزمة الخبز الحالية.

المصدر : الجزيرة مباشر