الحرب الكاشفة

أردوغان

وجدت الدول نفسها سواء على صعيد السياسات أو التموضع أمام اختبار حقيقي مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، ويبدو أن الدول الغربية لم تكن مستعدة بما يكفي، خصوصًا مع دعمها المبكّر لكييف وعدائها الصريح لموسكو، وكأنها تحرّضها على غزو أوكرانيا.

ليس من الواضح بعد ما إذا كان عدم استعداد الدول الغربية نابعًا من عجزها عن التنبؤ بسلوك موسكو، أو من الثقة المفرطة بما قد تؤدي إليه أفعالها.

على أي حال، كانت هناك نزعة توسعية لروسيا آخذة في الظهور منذ سنوات، وفي المقابل كانت وعود غربية توحي بالوقوف إلى جانب كييف مهما كلّف الأمر، لكن بمجرد أن طرق الروس أبواب أوكرانيا وجد العالم الغربي نفسه في حيرة من أمره، وبدا مرتبكًا بشأن ما يجب فعله حيال هذه “المفاجأة”.

كذلك الناتو أوضح على لسان أكبر مسؤوليه أنه لا يستطيع أن يكون جزءًا من هذه الحرب، وسيكتفي بمراقبة ما يجري، وعلى الرغم من توسلات الرئيس الأوكراني زيلينسكي عجزت الدول الأوربية عن فرض حظر جوي في أوكرانيا.

أوروبا تخشى من أن تصيبها الأضرار التي قد تنجم عن أي تحرّك ضد روسيا، فبقدر ما سيصيب الأخيرة سيصيب أوروبا كذلك، لا سيما ونحن في عالم متشابك للغاية لا يكاد يشعر فيه أحد بالاستقلالية جرّاء الاعتماد المتبادل، لدرجة يصعب فيها اتخاذ خطوة أو الرد على خطوة أخرى.

ولو اتخذ أحد ما خطوة هجومية سرعان ما سيدرك بعدَ أشواط من الخسارة أن التوقف عند نقطة ما والرجوع إلى الخلف سيكون ربحًا/مصلحة بحد ذاته، وبذلك تترسّخ فكرة السلام وتأخذ طابعًا أكثر جاذبية.

حفظ ماء الوجه

ربما يبدو للوهلة الأولى أن روسيا تمتلك زمام المبادرة بالمطلق حينما أقدمت على غزو أوكرانيا، لكنها الآن في وضع تدرك فيه أن التوقف عند هذا الحد والرجوع من حيث أتت سيكون أكثر ربحًا لها من الاستمرار وتحمّل مزيد من الخسائر.

لكنها تبحث الآن عن مكسب يحفظ ماء وجهها ويسمح لها أن ترجع، مثل تقديم تنازلات من كييف بحيث تخرج روسيا “منتصرة” من هذه المعادلة، ولذلك أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن إنهاء الحرب ممكن بشرط بإعلان أوكرانيا الحياد وتغيير بعض سياساتها.

في الأصل لم تكن روسيا بحاجة لكل هذه الفوضى من أجل تحقيق هذا المكسب. هل كان هذا المكسب يستحق كل ما بذلته حتى الآن من جنود وجهود وأموال واعتبار؟ بالطبع لم يكن يستحق، لكننا نكرر ما قلناه سابقًا من أن الحروب لا تصدر دائمًا عن قرارات عقلانية تعتمد على المنطق والمصالح.

يمكننا بالفعل أن نتوقّع من الآن تضعضع القدرات الحربية “الهائلة” لروسيا بعد هذا الهجوم، وعلى صعيد آخر بدأت دول أوروبا من الآن بالفعل في البحث عن بديل للغاز الروسي، وهذا سيقضي على امتيازات روسيا في هذا المجال على المديين المتوسط والبعيد. أما بوتين فإن شخصيته القيادية التي حافظ عليها لسنوات ستكون عرضة لندوب عميقة لن تمحى.

نتيجة لذلك، فإن قادة العالم ودوله أمام اختبار حقيقي، وفي خضّم ذلك تسطع نجوم وتأفل أخرى، وفي الحقيقة برز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي اتبع سياسة متوازنة منذ بداية الأمر، من خلال التميّز الذي أظهره في ضوء السياسة العالمية بفضل خبرته وحنكته.

إن النجاح في البقاء على الحياد في هذا النوع من الحروب يعد مهارة كبيرة بحد ذاته. لم ينجح أردوغان في مجرد الحياد فحسب، بل لم يمتنع عن انتقاد سياسات الدول الغربية إزاء روسيا بشكل صريح وشديد، على الرغم من أن تركيا عضو في الناتو، وفي المقابل لم يتردد في إخبار بوتين شخصيًا أنه ضد سياسات الغزو الروسي لأوكرانيا، وأن وحدة الأراضي الأوكرانية لا يمكن المساومة عليها.

لم يتوقّف الأمر في كلا الموقفين عند الكلام فحسب، فبينما رفض العقوبات ضد روسيا، تحوّلت مسيّرات بيرقدار التركية التي اشترتها أوكرانيا مسبقًا؛ إلى رمز للمقاومة ضد روسيا.

الزعيم أردوغان

على الصعيد الدبلوماسي، شهد منتدى أنطاليا قبل أسبوعين حراكًا دبلوماسيًا كبيرًا جمع طرفي الصراع وجهًا لوجه، والدول جميعها ذات الصلة أيضًا، وفي غضون أيام قليلة فقط عقب ذلك، صار التحرّك الدبلوماسي المذهل لأردوغان حديث العالم ومحط اهتمامه، ورأينا كيف تحوّلت تركيا إلى نقطة تتقاطع عندها الاتصالات والقنوات بشكل أكبر بين روسيا وأوكرانيا.

لكن، بينما يتابع الرأي العام العالمي هذا التحرّك عن كثب باهتمام وتقدير كبيرين، كيف ينعكس ذلك على الرأي العام في تركيا؟

نشر الكاتب التركي في صحيفة “حرييت”، عبد القادر سلفي، نتائج استطلاع أجري في شهر فبراير/شباط المنصرم، صدرت عن مؤسسة “أريدا” (AREDA) للأبحاث مؤخرًا. يشير الاستطلاع أن 47% من المشاركين صوّتوا لأردوغان في الإجابة عن سؤال “من هو القائد الذي يمكن أن يدير تركيا بشكل أفضل فيما لو تعرّضت لهجوم على غرار أوكرانيا؟”، وهي نتيجة تترك حيّزًا كبيرًا من الفرق بين أردوغان وأكبر منافسيه في تركيا.

لكن اللافت في الأمر هو نتيجة استطلاع جرى في مارس/آذار الجاري بعد احتدام الهجوم الروسي على أوكرانيا، ويمكن أن نرى فرقًا شاسعًا بين الاستطلاعين خلال أقل من شهر.

فعلى سبيل المثال، بينما صوّت 57.8% في فبراير على سؤال “كيف تقيّم سياسة تركيا حيال الهجوم الروسي على أوكرانيا؟”؛ بأنها “ناجحة”، ارتفع هذا المعدل إلى 69.9% في استطلاع مارس، كما أن 89.4% من المشاركين قالوا إن “على تركيا أن لا تغيّر سياستها الحيادية في هذا الصراع”.

أما عن “كيف ستؤثر هذه الحرب في قوة تركيا الإقليمية والعالمية؟” قال 46.4% من المشاركين أنها “ستزيد من قوتها”، ورأى 24.8% أنها “ستقلل من قوتها”، إضافة إلى 28.8% قالوا إن ذلك لن يزيد أو ينقص من قوة تركيا.

وحول الزيارات التي قام بها العديد من قادة دول العالم وممثليهم إلى أنقرة مؤخرًا، رأى 60.1% من المشاركين أن هذه التطورات “تشير إلى أن تركيا باتت قوة فاعلة في السياسة الخارجية”.

وفي حين أن 66.4% يعتقدون أن منتدى أنطاليا الدبلوماسي يسهم في صورة تركيا على المستوى الدولي، وقال 44.6% إن أردوغان وحده على مستوى عالمي قادر على حلّ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا. بيد أن 3.1% فقط رأوا أن بإمكان الرئيس الأمريكي جو بايدن حلّ هذه الأزمة، وبطبيعة الحال يرى 42.5% من المشاركين أن بلدي الصراع روسيا وأوكرانيا “يمكنهما حل الأزمة فيما بينهما عبر حل مشترك”.

هذه النتائج تعد درجات حقيقية لهذه الأزمة التي تمرّ كاختبار للجميع.

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر