من هو يونس إمره الذي تُسمى المراكز الثقافية التركية باسمه؟!

الدرويش الذي احتفلت “اليونسكو” بذكراه

يونس إمرة

مع زيادة حجم الوجود التركي سياسيا واقتصاديا وتجاريا في مختلف أنحاء العالم، سعت تركيا إلى إقامة علاقات على أسس شعبية قوية بعيدا عن السياسة وتقلباتها، لتفسح المجال رحبا أمام تقارب وثيق واستمرارية لا تزول؛ ولهذا عملت على تعريف الشعوب بفنونها المتنوعة وفسيفساء ثقافة شعبها، وتراثها الأدبي المتوارث؛ ولهذا الغرض خصيصا أنشأت الكثير من المراكز الثقافية التي حملت جميعها اسم “يونس إمره”. وهنا يبدو من المنطقي السؤال عن هوية هذا الشخص الذي تحمل المراكز الثقافية التركية المنتشرة في أرجاء المعمورة اسمه.

إنه الشاعر والمتصوف والقاضي التركي، الذي يعتبر أهم الشعراء الشعبيين في تركيا، وأكثرهم شهرة وتأثيرا في الثقافة التركية على مر تاريخها. ولد يونس عام 1238م، وعاش ودفن في قريته “صاري كوي” التي تقع في المنطقة الممتدة بين إقليم بورصوك وسقاريا، وأمضى فترة شبابه مع والدته إلا أنه كان دائم الشعور بالوحدة والغربة، حيث عاش خلال هذه الفترة من حياته منعزلا عمن حوله مفضلا التجول بين البساتين والكروم حتى أطلق عليه أهل قريته “يونس الوحيد”.

تزامنت مرحلة شباب يونس إمره مع نهاية عصر الدولة السلجوقية وبداية فترة الدولة العثمانية، وهي فترة اتسمت بالكثير من الاضطرابات السياسية في منطقة الأناضول، حيث كان الصراع محتدما ضد السلاجقة والبيزنطيين، وتصاعد خطر المغول القادمين من أقصى الشرق، مع زيادة حركات التمرد والعصيان، وانتشار عصابات قطاع الطرق، نتيجة موجة الغلاء والقحط اللذين أحدثا نوعا من عدم الاستقرار، وتشتت الجبهة الداخلية.

دوره في إيقاظ الوعي وتنبيه العقل

وفي ظل هذه الظروف الصعبة كانت نشأة يونس إمره، ويبدو أن تلك العوامل رغم قسوتها وجفاء أيامها أنبتت داخله بذرة المتصوف والشاعر، وساعدت بقوة على سطوع نجمه رمزًا للأدب الإسلامي؛ وذلك لكون مثل هذه الفترات المشحونة بالبلاء وتعاظم المخاطر داخليا وخارجيا تدفع الناس دفعًا إلى اللجوء للمولى عز وجل، والتضرع إليه طلبًا للعفو والمغفرة، وسعيًا لتغيير الحال ولو عن طريق الدعاء، ليتعاظم دور المدارس الدينية في إنارة العقول، وتزداد أهمية تكايا الدراويش التي تنقي الأرواح، وتغذي القلوب بأفكارها الصوفية الروحية الخالصة بعيدًا عن عالم الماديات الذي يتسم دومًا بالخلافات والمشاحنات.

ففي خضم هذه الأحداث عمل يونس إمره على إيقاظ الوعي، وتنبيه العقل، داعيًا إلى التلاحم بين العلم والإلهام، وردم الهوة بين ما هو مادي وما هو معنوي، حاضًّا الجميع على التعاون والعمل معًا من أجل تضميد الجروح والحفاظ على هوية الأناضول الإسلامية، ساعيًا إلى وضع أسس مذهب وجداني وسطي يتولى مهمة توظيف العلم ولا يُفتن به، ويعي أن المؤثرات الخارجية العسيرة تدفع في حال التسليم لها إلى التطرف المقيت، أو إلى السخط على القدر، وكلاهما خروج عن الفطرة الإنسانية ولذلك رفضهما معًا، ومن هنا تبلورت بقوة شخصيته الصوفية الشعرية، التي أثرت وتأثرت بهذه التجربة التاريخية، وفي هذا يقول شاعرنا:

لا علم لي ولا طاعة

لا قوة لي ولا طاقة

إن لم تكن عنايتك

لتبيِّض وجهي إلهي

تأثر يونس إمره في أشعاره بمولانا جلال الدين الرومي أشهر متصوفة القرن الثالث عشر الميلادي، إلا أن قصائده كانت أكثر شعبية وبساطة واقترابا من عقول البسطاء والعامة بعيدا عن الفلسفة الصوفية العميقة التي تمتاز بها أشعار الرومي.

أحد رواد اللغة التركية رغم أُميّته

امتاز يونس بكونه من أوائل الشعراء الذين ألقوا شعرهم باستخدام اللغة التركية الأناضولية القديمة التي تطورت لتصبح اليوم اللغة المعتمدة رسميا للجمهورية التركية، وذلك عكس كثير ممن عاصروه من الشعراء الذين اعتادوا على استخدام اللغتين العربية والفارسية في التعبير عن مواقفهم وآرائهم بقصائدهم وأشعارهم؛ لذا ظل تأثيره في الأدب التركي مستمرا حتى الآن، رغم أنه كان أُميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة.

كتب يونس إمره مئات من القصائد، ووجد معاصر له يدعى “ملا قاسم” أنها مخالفة للشريعة فأحرق الكثير منها، إلا أن بعضا منها نجا، وهو ما كان مدونا في مخطوط عُثر عليه بمدنية بورصة، ويعود تاريخه إلى القرن الـ15، ويتناول الشاعر في هذه القصائد موضوعات تتعلق بالعناية الإلهية والعدل والموت والفناء والحياة.

وتعد أشعار يونس إمره تعبيرا متقنا عن التقاليد والموروثات الإنسانية التركية، المرتبطة بتراث منطقة الأناضول المغلفة بأفكار ورؤى إسلامية، معبرا بطريقته المميزة عن الأفكار الصوفية التي انتشرت في زمنه بلغة بسيطة سهلة الفهم والاستيعاب، معتمدا في ذلك على القوافي والأوزان الشعبية، مازجا بين الذوق التركي وجزيئات الثقافة الإسلامية الصافية، مبتدعا بذلك نسيجا فريدا غزا به عقول الناس، وسكن قلوبهم، ليصبح رمزا يحاكيه شعراء الصوفية الذين أتوا من بعده، وشعراء النهضة الوطنية الذين حملوا لواء الشعر بعد عام 1910.

معهد يونس إمره في أنقرة

الفصول الأربعة وعلاقتها بالوجود والفناء

اهتم شاعرنا اهتماما بالغا في شعره بالتعبير عن حبه للخالق سبحانه وتعالى، وإبراز مدى تعلقه به، والتفكير في عظمته وجلاله، والنعم التي أنعم بها على البشر، متحدثا عن العشق الإلهي والوجود والعدم، والكائنات، ودورة النباتات وعلاقتها بالطبيعة والفلك والفصول الأربعة، التي اعتبرها رمزا لمراحل الوجود والفناء، فنجده يقول في أحد أشعاره:

قطع بردُ الشتاء الأوصال

وهبت نسائمُ الربيع العليل من جديد

وفجأة لفت رحمة شاملة المكان

وجاء الصيف المبارك من جديد

واكتسى العالم من خزائنه حللا جديدة

ووهب النبات حياة جديدة

لم تأت كلماتي من أجل الصيف أو الخريف

بل من أجل المعشوق من جديد

أتوسل للسلطان أن يهب الحياة

للذين أفناهم من جديد

تمثال إمرة
تمثال يونس إمره

اليونسكو والاحتفاء بهذا البطل الشعبي والدرويش الصالح

ونُسب ليونس كتاب “الديوان” الذي يحوي كل أشعاره، ويُعرف أيضا باسم “الهيلر”، ونجده فيه يناجي ربه، ويتضرع إليه أن يغفر له خطاياه، ويحشره في زُمرة أحباب الحق، كما يُنسب إليه أيضا كتاب “رسالة النصيحة” وهو كتاب أدبي يأتي على نسق المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي، ويعتبره النقاد أثرا تعليميا مهما لما يحويه من تفاسير ونصائح وحكم وعظات، الأمر الذي يعكس دوره كمرشد ديني وروحي للشعب التركي في هذه الفترة الحرجة من حياته.

ولذا نظر إليه الأتراك على أنه أحد الصالحين الدراويش، وبطل شعبي ملحمي، فمجّدوا أعماله، ورفعوا مكانته، وهو ما يبدو واضحا في إقامتهم أضرحة تحمل اسمه في كثير من الأماكن داخل المدن التركية -رغم أن مدفنه الأصلي موجود في قريته “صاري كوي”- رغبة منهم في جعله جزءا من نسيج مناطقهم، وعلامة من علاماتها التاريخية البارزة.

وهو ما دعا هيئة اليونسكو إلى إعلان عام 1991 عام يونس إمره بمناسبة الاحتفال بذكرى مولده الـ750.

يونس إمره
المصدر : الجزيرة مباشر